إن وجهة النظر المطروحة في هذا البحث، ليست اكتشافاً اركولوجياً، بل هي اجتهاداً، لا يعتمد إلا النصوص التراثية التاريخية منها والبدائية على حد سواء. وقد اجتهدنا خلال هذا التقصي وتلك المتابعة أن تكون المصادر المستخدمة معاصرة قدر الاستطاعة للحدث، أو الأصح، قريبة منه. هذه المسائد في البحث الجاري هي الكتابات التاريخية المنقولة عن وهب بن منبه والبلاذري والطبري والمسعودي، وأصحاب البلدنيات كابن خرداذبة وسواه، وهذا أقصى منال موصول بتاريخنا المكتوب، وليس قبله متابة نركن إليها سوى الأحاديث النبية وما في معناها من أقوال الصحابة والتابعين، وهذه أيضاًفي صلب اهتماماتنا واعتمادنا عليها، وسنباشر الكلام على “عيتا الزط” كبلد موريس عليه التبديل والتغيير.
عيتا الزط (Ldhat)
يعتقد الدكتور “أنيس فريحة” أن كلمة “عيتا” هي تحريف للكلمة السريانية، “عدتا” بإدعام الدال بالتاء، ودلالتها في تلك اللغة تعني: كنيسة، مجمع، بيعة، أما كلمة “زط” فهي – بحسب رأيه – تعني أقواماً من غير العرب من آسيا الوسطى واللفظة “معرب جيت” ويعرفون بالنور (أنيس فريحة – معجم المدن والقرى اللبنانية ص145).
اقرأ أيضاً: خلع أسماء القرى والاستعاضة عنها بجديد فتون بحب السلطة والسلطان
ويطابق المعنى المعجمي لكلمة “عيتا” عند الدكتور فريحة – المعنى نفسه تقريباً عند د. “يوسف حوراني”، ومعناها لدى الأخير: المقر، المقام، والسكن، أما وجه الخلاف بينهما فهو المضاف إليه “الزط” والأصل – كما يراه حوراني – “زد” رمز الإله “بتاج” المماثل لشجرة الصنوبر، رمز البعث السنوي “وكان له عيد وحفلة تقام بالمناسبة كل سنة”. والمكان مزار قديم مخصص لهذه الغاية، نافياً – كذلك -أي علاقة بينه وبين الجماعات الزطية المشهورة في العراق خلال التاريخ الإسلامي (أنظر د. يوسف حوراني – المجهول والمهمل…ص119).
يؤكد الأستاذ عبد الله الحلو من جانبه أن “لفظة عيتا” هي موضع شك، مقراً في الوقت ذاته، بحصول تشويه في الأسماء التاريخية، والمفارقة بينه وبين الدكتورين المذكورين آنفاً هي لجهة مرد الإسم ودلالته، نافياً عنه التحوير المجرى عليه من قبلهما، وإنما أخذه تاماً غير محرَّف، أي، كما تلفظه العامة، وفي هذه الحالة يأتي مطابقاً للفظة السريانية “ومرادفها في الآرامية () عيثا” (عبد الله الحلو: تحقيقا تاريخية ص408)، ودلالة المصطلح في اللغة الأخيرة هي: “النحس والشؤم والباطل”. وهذه الدلالة لها علاقة مباشرة بظروف النشأة، غير أن الحلو يرى أن هذا التفسير مجرد افتراض ليس إلا، وما هو بالمسلمة البدهية، فاتحاً بذلك المجال ليقين التدبر، بدلاً من يقين العيان.
تأتي النصوص المدوّنة أعلاه مصدقة لمآخذنا السابقة عن المصاقبات اللفظية مع دوالي فارغة تلعب في فضاء المعنى، والإصرار على المطابقة بينهما اغتصاب للاسم أحياناً، لقابلية المفردة على التحويل والزحزحة، وتشديد نبرة البعض على المواءمة مراده أخذ المعنى من أذنه إلى حيث يريده هذا. والاعتماد من قبلنا، لإعداد مسرح الأحداث مقتصر على الممثلين أنفسهم حسبما دوّنته السير التاريخية عنهم، والتركيز بالتالي على كلمة “زط” لأن التغيير حصل عليها وحدها دون المضاف “عيتا” والأخيرة متروكة للأرض وهمة أهلها في استخراج المعارف المضيئة لتاريخها.
من فارس حتى العراق
أول من تكلم عن الزط من العرب “وهب بن منبه” – (المتوفى سنة 114 هـ) – (أنظر ياقوت الحموي – معجم الأدباء) فقد نقلصاحب كتاب “التيجان” عن مؤرخ اليمن العالم بالإنسان أبي محمد عبد الملك بن هشام – (في معرض حديثه عن تبع مشمر بن ناشر النعم – المعاصر للأمبراطور الفارس قباد) -أن الزط قوم من بني يافث، ويدرجهم في عداد أقوام آسيا الوسطى.
غير أن “القاضي أطهر مباركيوري” (الهندي) يعتقد أن الزط من الشعوب الهندية، وأماكنهم الأصلية السند، وليس أواسط آسيا، فهم موزعون على مكران وبلوجستان والملتان والدبيل وغيرها من تلك البلاد. والسند في ذلك أصحاب البلدانيات والرحالة العرب كابن خرداذبة في المسالك والممالك، والاصطخري في مسالك الممالك، وأبي الفداءفي تقويم البلدان (أنظر القاضي أطهر مباركيوري – العرب والهند في عهد النبوة ص48).
ويجزم ابن منظور، كذلك بتبعية الزط للهند حيث قال: “الزط: جيل أسود من السند إليهم تنسب الثياب الزطية” (ابن منظور – لسان العرب م7 – 308).
ولعلهم من الشعوب الهندية الذين تحدثت عنهم كتب التاريخ، والذين استوطنوا شواطئ الخليج الفارسي واحتكروا التجارة العالمية في تلك البلدان، فابن خرداذبة يحدد منازلهم من فارس حتى العراق. وكانت أكبر مدن الزط “أبلة” (الواقعة على مسافة ثمانية أميال من مفترق الطرق الذاهبة إلى فارس من سوق الأهواز). ويفصل ابن خرداذبة المراحل بين بلدان الخليج على الشكل الآتي: “من الأهواز إلى أزم ستة فراسخ، ومنها إلى عبدان خمسة فراسخ، ثم إلى رام هرمز ستة فراسخ ثم إلى الزط ستة فراسخ”. (ابن خرداذبة: المسالك والممالك – ص56)، أما الاصطخري فكتب عن إقليم خوزستان قال: “والزط والخابران وهما كورتان عامرتان على نهرين جاريين” (الاصطخري: مالك الممالك – 94).
كانت الغاية من هذا البسط إظهار الزط من مستوطني الخليج الفارسي، لندرجهم بالتالي، في عداد الجيش الفارسي من الدولة الساسانية. وإنهم كانوا من المتطوعة في هذا الجيش من دون مرتب يتقاضونه، يقيمون فيه سنة ثم يأتي غيرهم، لقاء السماح لهم بالاتجار في المناطق الفارسية دون عوائق أو مكوس إضافة. وكانت الدولة الساسانية بدورها تضعهم تحت تصرف ملوك الحيرة من المناذرة، لذا سُميت هذه الكتيبة التي كان تعدادها ألف رجل بـ”الوضائع”.
ويظهر من وصف الأخباريين للنعمان الأول – مالك المناذرة الملقب بالسائح – أنه “كان من أشد الملوك نكاية في عدوه وأبعدهم مغاراً فيهم، وكان ملك فارس جعل معه كتيبتين: يقال لإحداهما: دوسر، وهي لتنوخ، وللأخرى الشهباء وهي لفارس، وهما اللتان يقال لهما القبيلتان: فكان يغزو بهما بلاد الشام ومن لم يدن له من العرب” (الطبري – تاريخ الرسل والملوك2: 67).
ويتبين من مسرد الروايات التاريخية العديدة أن الكتيبة “الفارسية” الوضائع ليست من الفرس – بالمعنى العرقي – بل من الهنود المنتشرين في المناطق العربية قبل الإسلام، ومن ضمنهم الزط، وأن كلمة فرس لا يقصد منها الجنسية الاثنية، وإنما تطلق للتبعية وسنتحقق من هذا الأمر لاحقاً. ولا يقتصر وجود الزط ومن في معناهم من الهنود (الذين احتكروا التجارة في منطقة الخليج) على أبلة والأهواز في العراق، بل كان انتشارهم على طول الساحل من أبلة شمالاً حتى البحرين وعُمان جنوباً، وذلك على عهد الرسالة لأننا نقرأ في فتوح البلدان: “أن الرسول بعث إلى وضائع كسري بهجر فلم يسلموا فوضع عليهم الجزية ديناً على كل منهم” (البلاذري فتوح البلدان ص92).
وعندما قامت حروب الردة – بعد وفاة الرسول، مال الزطيون إلى حلفائهم قبيلة بكر بن وائل وقاتلوا معهم المسلمين، يقول الطبري: “لما مات النبي صلى الله عليه وسلم خرج الحُطّم بن ضبيعة أخو بني قيس بن ثعلبة فيمن اتبعه من بكر بن وائل على الردة، ومن تأشب إليه من غير المرتدين ممن لم يزل كافراً، حتى نزل القطيف وهجر، واستغوى الخط ومن فيها من الزط والسيابجة (الطبري – مصدر سابق، 3-304).
ولما انتصر المسلمون على الحُطم بن ضبيعة ومن التحق به من الأشائب من الزطيين والسيابجة وغيرهم، فرّ قسم من الهنود إلى دارين واحتمى بها، وقسم آخر لجأ إلى أبناء قومه في أبلة على فم الخليج بالقرب من البصرة الحالية، والباقي عاد إلى بلاد السند. واستدلالاً بالبلاذري والطبري فإن الوضائع التي راسلها الرسول (ص) هم من الزطيين ومن يلوذ بهم من السيابجة وسواهم. واستدراكاً للإشارة السابقة إلى أن هؤلاء ليسوا من أصل فارسي، بل هم بحكم التبعية “مواطنون” فرس، فالشواطئ الشرقية للجزيرة العربية، وبخاصة البحرين كانت تحت السيطرة الساسانية المنتدبة، على غرار ما كان موجوداً في الإمارات العربية التابعة للاستعمار البريطاني حديثاً،وكانت بعض من هذه الإمارات محكومة من بعض المشايخ العرب نيابة عن الأمبراطور الفارسي.
لا يتوقف ذكر الزطيين على حروب الردة وحدها، بل إننا نجد، لهم شأناً كبيراً ف ضحى الإسلام أيضاً، والمرجع الرئيس في تتبع أخبارهم في تلك المرحلة هو البلاذري، حيث يحدثنا نقلاً عن سويش العدوي – الذي شهد فتح الأهواز قال: “أتينا الأهواز وبها ناس من الزط والأساورة فقاتلناهم قتالاً شديداً فظفرنا بهم فأصبنا سبباً كثيراً اقتسمناهم فكتب إلينا عمر أنه لا طاقة لكم بعمارة الأرض فخلّوا ما في أيديكم من السبي واجعلوا عليهم الخراج فرددنا السبي ولم نملكهم” (البلاذري – مصدر سابق ص366). وكان الهنود بعد معركة الأهواز قد راسلوا أبا موسى الأشعري مشترطين عليه، للدخول في الإسلام، شروطاً عدة منها: القتال مع المسلمين ضد أعدائه من العجم، وأن وقع خلاف بين المسلمين لا يميلون إلى أي فريق من الأفرقاء المتنازعين، ومنها إذا قاتلهم العرب منعهم المسلمون من ذلك وأعانوا الهنود عليهم، كما اشترطوا النزول من البلدان حيث شاؤوا وأن يكونوا فيمن شاؤوا من المسلمين، وأن يلحقوا بشرف العطاء (أنظر البلاذري ص366). استشار أبو موسى الأشعري – الخليفة – آنذاك لأخذ رأيه في الموضوع، فطلب منه عمر القبول بهذه الشروط، فأسلم الزط ومن في معناهم من الهنود وحسن إسلامهم.
نبوغ في مجالي السيق والقلم
وبعد معركة القادسية تقرر مصير العراق نهائياً لمصلحة الجيوش الإسلامية، فأصبح الزط من الموالي، وقد توزعتهم القبائل العربية فيما بينها: يقول أبو الحسن المدائني: “أراد شيرويه الأسواري أن ينزل في بكر بن وائل مع خالد بن معمر وبني سدوس فأبى سياه ذلك فنزلوا في بني تميم ولم يكن يومئذ الأزد بالبصرة ولا بعد شمس، قال فانضم إلى الأساورة السيابجة وكانوا بالطفوف يتبعون الكلأ فلما اجتمعت الأساورة والوط والسيابجة تنازعتهم بنو تميم فرغبوا فيهم فصارت الأساورة في بني سعد والزط والسيابجة في بني حنظلة فأقاموا معهم يقاتلون المشركين، وخرجوا مع ابن عامر إلى خراسان”. (البلاذري مسابق – ص367).
وبالعود إلى نص الدكتور أنيس فريحة الآنف الذكر، الذي وضع الزط في خانة النور، في حين أظهرت النصوص العربية التراثية عكس ذلك، ومن خلالها ليتبين أن الزط شعب شديد المراس، ومن المقاتلين الأشاوس، وقد ظهرت هذه الشدة، بخاصة، في اختيار الساسانيين لهم كوضائع لدى ملوك المناذرة، وكذلك المعارك التي خاضوها ضد المسلمين في حروب الردة وفي معركة الأهوار أيضاً. بعكس النور الذين يدينون بالولاء للغزاة والفاتحين، ولم نسمع من المصادر أن الغجر قاموا بصد الغزاة أو ثاروا في وجه الطغاة، فهم شعب اعتاد الذل والمسكنة وارتضوا من الحياة بالعيش.
اقرأ أيضاً: النبطية في كنف العائلات السياسية
وما يعزز القرائن السابقة في تثبيت نسب الزط إلى الهند، قرينة التحاق هؤلاء بالقبائل العربية، بخاصة، قبيلة تميم – (القبيلة الرأس بين القبائل المضرية) – بتاريخها الناصع في الإسلام وقبله، ولم يتناه إلينا من المصادر أن الغجر، انضووا يوماً إلى إحدى القبائل العربية، ولو كان الأمر حاصلاً – أصلاً – لأصبح ذلك معرّة لتلك القبيلة، وسبة لها مدى الدهر. بقي أن نشير أيضاً إلى حديث مهم مرفوع إلى الرسول(ص)، يستدل منه ضمناً أهمية الوط وجمالهم، فقد شبه الرسول أخاه النبي موسى(ع) بالزطي.
وقد نبغ من الزط – في الإسلام رجالات عدة في مجالي السيف والقلم، ويكفي هؤلاء مفخرة أن الإمام الأعظم أبا حنيفة النعمان بن ثابت من نسلهم!
نكتفي بهذا القدر من الدفوع للرد على ما نسّب الزط إلى “الجت” أو غجر آسيا الوسطى.
(مجلة شؤون جنوبية – العدد الرابع – أيار 2002)