
ولاحظ انه من “المثير للاهتمام أن الجمهورية الإسلاميّة الإيرانية ـ التي وضعت دستورها وقوانينها وفقاً لقواعد الشريعة الإسلاميّة ـ أدركت وفقاً لاعتبارات وظروف العصر الذي نعيش فيه، أنّه يقتضي إعادة النظر في مسائل وقضايا اقتصادية وجنائية.. بما يتناسب مع العصور السابقة، ولكنه لا يتناسب مع عصرنا الراهن”.
اقرأ أيضاً: السيد محمد حسن الأمين: الإعجاز القرآني يتيح للجميع الحد الأدنى من التفسير النسبي
نظام المصارف
وأعطى مثالاً ان “النظام الاقتصادي، ونظام المصارف الذي لم يخرج إلا من الناحية الشكلية أحياناً عن الأنظمة المعمول بها في عالمنا المعاصر”، مشيراً الى انه “ما يسمى بالفائدة المصرفية، والتي تعمل بها المصارف الإيرانية ولكن تحت تسمية تقديم أجور عن الخدمات المالية التي تقوم بها هذه المصارف”، مضيفاً “كما أنها تخلت عن بعض الحدود المنصوص عليها وخاصّة حد السرقة، فقد اعتبرت أنّ المقصود من هذا الحد هو الردع لا العقوبة المنصوصة بذاتها (أي قطع يد السارق)”، وتابع” واستندت في ذلك إلى أمرين، منها أن الحدود تدرأ بالشبهات، ومنها عدم تقبّل مثل هذه الحدود في قيم عالمنا المعاصر، وما يعود من تطبيقها على المواطنين وفق النصوص الشرعية بالسمعة السيئة لقوانين الإسلام”.
ورأى ان “الأهم من ذلك هو إعادة النظر بالغايات والأهداف التي وضعت لها هذه الحدود، وهي لا شكّ تنحصر بهدف الردع عن ارتكاب الجرائم التي استوجبت هذه الحدود، وبما أن للردع وسائله المتعددة الأخرى، وأضاف” فلا نرى مانعاً من اعتماد هذه الوسائل الأخرى لأنها تؤدي إلى الغرض نفسه – أي إلى ردع المنحرفين – من جهة، ومن جهة أخرى أنّ هناك قاعدة واضحة في الإسلام تنصّ على أن الحدود تدرأ بالشبهات، ولذلك فإنّ تطبيق هذه الحدود بنصها يمكن أن يقع دون الأخذ بقاعدة أنّ الحدود تدرأ بالشبهات”.
عقوبات عديدة
ومن جهته، وإذ أبدى موافقته على هذا الرأي، رأى “أنّ الحدود بذاتها ليست مطلوبة بالقدر اللفظي لهذه الحدود، الغاية منها الردع الذي يمكن تأمينه وتوفيره في عقوبات عديدة أخرى، وأضاف”: ويمكننا أن نستلهم أو نستشف موقف الإسلام من هذه المسألة من كون الإسلام وضع شروطاً قد لا يمكن تحقيقها لإقامة بعض الحدود، كحد الزنا مثلاً الذي يتطلّب إيقاعه حضور أربعة شهود يشاهدون عملية الزنا بتفاصيلها، وبأن حد السرقة لا يُصار إليه في حال وجود مجاعة أو ظروف شاقة ترتكب فيه السرقة لا بدافع الإنحراف وإنما بدافع الحاجة الشديدة لسد ضرورات لا يمكن سدها بالوسائل المحللة”.
واشار في هذا المجال إلى “مرحلة من مراحل التاريخ الإسلامي كما في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، عندما أوقف حد السرقة في عام المجاعة، ووافقه على ذلك الصحابة، مما يدل أنّ الإسلام متشدد أولاً في شأن إقامة الحدود، وبما يوحي بأن الحدود لم تشرع كأهداف في ذاتها، وإنما كوسائل للردع، على أننا نميّز بين الحدود المنصوص عليها فنرى أنّ جريمة القتل العمدي والقصدي لا يمكن رفعها ذلك للتشديد القرآني على فظاعة مثل هذه الجريمة.
صلاح المجتمع
تابع”: وفي هذا المجال أود أن أشير إلى أنّ الإسلام هدفه صلاح المجتمع، وفي روح الإسلام وشريعته ما يؤكّد أن الأساس في شريعته وفي قيمه ومبادئه وأخلاقه إنما يهدف إلى نفي القيم المرذولة ونفي العدوان، وتعميم قيم الخير والحق بين أفراد المجتمع، فإذا أمكن أن يذهب المسلمون إلى إقامة مؤسسات تعتني بإصلاح المنحرفين، وتخريج هؤلاء من هذه المؤسسات كبشر أسوياء وصالحين، فإن الإسلام لا يمنع من ذلك فحسب، بل يحث عليه، وإذا ثبت أنّ المؤسسات الإصلاحية هي الأقدر على تقويم سلوك بعض المنحرفين أو المتجاوزين لقيم المجتمع الصالح فطبيعي أنّ الشرع الإسلامي يقدم هذا السلوك على سلوك العقوبات التي يمكن أن تؤدي إلى مزيد من الانحراف”.
إن الدين الإسلامي لم ينـزل ليقيض تقييضاً تاماً ودائماً بصيغة محددة، فلو اقتضى التشاور بين المسلمين إلى تعطيل شيء من الأحكام الظاهرية بسبب الأضرار المادية أو المعنوية المترتبة عليه، فإن قاعدة «الضرورات تبيح المحظورات»
وأكد بالقول”: هذا هو في رأينا هدف الشرع ومقاصد الشريعة، على أنّ ذلك لا يمنع من إيقاع القصاص في الحالات التي لا ينفع فيها الإصلاح، والتي يكون فيها أمر الإصلاح ميؤوساً منه، كجريمة القتل المتعمد، والتي لاحظنا أنّ كثيراً من الدول الغربية ألغت عقوبة الإعدام، ونحن غير مقتنعين بجدوى إلغاء هذه العقوبة، فهي عقوبة عادلة وضرورية”، و أردف “ليس صحيحاً كما يشاع من أنها غير رادعة، كما أنّها عقوبة عادلة وهل يوجد عدالة في مثل هذه الحالة، كأن يقتصّ من القاتل المتعمّد وبدون سبب بالوسيلة نفسها التي ارتكب فيها جرمه وألغى حياة إنسان آخر! فهو إذن يُعاقب بمثل ما اقترف، وهذا عين العدل والصواب”.
القصاص
وشدد عل أنّ الإسلام شرّع القصاص لأن هدف الشريعة الإسلاميّة – كما أشرنا سابقاً – فإنه ترك للحاكم أو القاضي أمر تقدير القصاص ونوعيته حسب الجريمة التي تستوجب هذا القصاص، بما يدل على أنّ الشريعة أعطت للمجتمع عموماً ولولاة الأمور أمر تقدير كثير من القضايا ومنها أمر تقدير القصاص الملائم والمناسب وفق مفاهيم وقيم العصر الذي يختلف غالباً عما سبقه من العصور”.
اقرأ أيضاً: السيد محمد حسن الأمين: عبادة الصوم هي قوة الإمتناع أمام المغريات
و ختم”: أخيراً فإن الدين الإسلامي لم ينـزل ليقيض تقييضاً تاماً ودائماً بصيغة محددة، فلو اقتضى التشاور بين المسلمين إلى تعطيل شيء من الأحكام الظاهرية بسبب الأضرار المادية أو المعنوية المترتبة عليه، فإن قاعدة «الضرورات تبيح المحظورات» تغدو قاعدة كافية للنظر في كثير من الأمور، ومنها موضوعنا هذا الذي بحثنا فيه مسألة الحدود في الإسلام”.
(من كتاب “أمالي الأمين” للشيخ محمد علي الحاج العاملي)