درجت بعض من القرى العاملية – منذ أمد ليس ببعيد، على خلع أسمائها القديمة والاستعاضة عنها بحلل جديدة، يظهر من خبط أقدامها الهوس حتى الفتون بحب الخربة، و”الشهابية” بدلاً من “طيرزبنا”، و”السلطانية” بدلاً من “اليهودية” أو كالبعول الكنعانية المتيّمة بالجبال الشاهقة مثل: “عيتا الجبل” بدلاً من “عيتا الزط.
والمفاجئ، لمتتبع هذه الدرجة أن وقوعها حاصل في ظرف خاو من الدلالة، ذلك أن تغيير الأسماء وتبديلها من السمات الدالة على حصول منعطفات اجتماعية حاسمة، كان يصادف، مثلاً، ظهور دين جديد، أو قيام ثورة اجتماعية أو طبقية، تحدث تغييراً عميقاً في بُنى المجتمع كافة، فتنشأ عنه نهضة ثقافية وروحية تعبِّر عن قيم حركات التغيير وتطلعاتها.
اقرأ أيضاً: بيت من مرجعيون
وقد يطال التغيير أو الحاجة الروحية له الأسماء الدالة على العهود البائدة، سواء كانت وثنيّة أن رجعية، أو استعمارية، لأن في الجماعية وتماهيها مع الذهنية المولّدة لهذا المناخ الجديد، فيتم عزل الأسماء المنبوذة ضماناً لعدم بقائها معادلاً عقلياً للأشياء، وبهذا أصبحت يثرب مثلاً، مدينة الرسول، و”الاستانة” مكان “القسطنطنية”، وكذلك مدينة “بطرسبرغ” أصبحت “لينينغراد” بل سقوط الاتحاد السوفياتي، كما استبدل بـ”سايغون” اسم “هوشي منه”، تيمناً بقائد الثورة الفيتنامية المظفرة.
غير ان العصر اللبناني الراهن لا يظلّل زمانه نبي أو ظهور، وليس فيه سمات لتحول اجتماعي حتى ترمى هذه القرى المستكينة لتاريخها بما رُميت به، من قبلُ، آلهة الشرك من نبذ وتحطيم، ويستعاض عنه أسمائها المعتّقة بألأسماء كتيمة ليس فيها من عبق التاريخ وجلاله ومن الكفاية الروحية، ما يعوّض به عن هذا التسطح وذاك الخواء المخيف.
الشهابية
ظهر هذا التوجه “التغييري” في أواسط الستينات، حين تقدم أحد الكدية – ممن اعتاد التقرّب زلفى من السلطة والسلطان – بطلب تغيير اسم البلدة، والحجة المقدمة أن الإسم مثار للغط والاستهجان، في الواقع، كانت هذه الطفاوة ذريعة لاستدراج عروض، يبتغي العارض منها مرضاة الحاكم ليمتن – بواسطتها – ارتباطه بالأجهزة، فضلاً عن توفير “الجاه” الذي وصفه ابن خلدون بأنه جانب للثروة.
فلمع في سمائنا الجنوبية وميض “الشهابية”، ولم يكن الشهاب الجديد ككأس الشاعر “مسترق الطرف سعد الأثر” بل رجوماً للشياطين، فلم يتحصّل منه المرتجى، لم يستطع الجديد إخفاء ذيله المبلّل بالمنفعة، في وقت كرهت فيه الناس العسس واستراق السمع من وراء الأبواب.
اليهودية
لئن كانت البدعة الأولى ملطّخة بسخام الارتزاق، إلا أن متتبعي درجة “التغيير” هذه ليسوا – في الحقيقة، من ذاك الصنف، ولا على المستوى نفسه من الفظاظة، فهم على طبقات شتى، فمنهم المحتسب ومنهم المتطلب ومنهم الناقم، أما الأول فقد شعر بـ”اتساخ” فميص التسمية (اليهودية) على رقبته الدينية أو القومية، وخشي أن يُرمى بما رُمي به، من قبل “كعب الأحبار”، في حين التبست التسمية على الفريق الثاني، فظن بها الظنون، (والحَّ على ضميره استيهام مرضي بأن كلمة “زط” تعني عجر آسيا)، فأخذته النخوة الجاهلية، ومن دون احتكار إلى رأي العارفين طرح “الظنين” وكان به من الزاهدين، أما الصنف الثالث والأخير فقد أعياه تحرض أوباش البلدة المجاورة بمعلم قريته “الخربة” المرجعيونية، ففي كل مرة كان أبناء هذه القرية ينظفون فيها معلمهم هذا، يأتي في سرى الليل زعران البلدة المجاورة ويضيفون نقطة تحتية على حرف “الباء”، الأمر الذي يدحرج المعنى إلى مجاري العذرة والنجاسة، لذا لجأ الأهالي إلى هذا التدبير المرّ!
تلك هي إذاً الحالات الأربع التي جرى فيها مبضع البتر والتغيير، فجاءت أحكام المستأصلين على الظن دون يقين عيان، ولم يكن شأن الأهالي المتبوئين سلطان الاسم الجديد وشموخه أدنى بأواً ممن أعطى التصريح بالتغيير والتبديل! ومما لا شك فيه أن ما أناط المسؤولية بوزارة الداخلية بالتحوط على ميراث الأٍماء وحفظه، قد أزرى بعقولنا وأساء إلى قرابتنا الحضارية – فهذه المسائل – (في البلدان المتقدمة) من اختصاص وزارة الثقافة ومهامها، فهي الوحيدة المعنية بالحفاظ على ميراث الوطن ومعلمه الأثرية، والأسماء كهذه المعالم عين بعين.
فتاريخانية الاسم كبطاقة “أميركا” في رمزيتها وعلاقتها الجدلية بين الباطن والظاهر، ففي المقارنة الآنفة الذكر تكتنز الدلالات بمعانيها فكما أن الشقين في البطاقة يتمم بعضها البعض الآخر، ولا تقوم شهادة أحدهما ما لم تأت الأخرى مطابقة لهاذ في الشكل والمضمون، وما نرمز إليه، هنا، بالباطن هو المطمور من أيام الاسم، أي، ما تتكشف عنه الآثار والعاديات القديمة من معلومات تندرج في سياق تاريخي صحيح، أما الطاهر فهو المسمى من الكان، وهو ظهارة الباطن المقاوم لصروف الدهر وحدثاته. والمصدر الميمي (المكان) فريد في نوعه بين كل المصادر الأخرى، فمن ناحية يدل على التحيّز كمكان، أما دلالته الأخرى فإنه يحمل في طياته فعل الزمان أيضاً (كان)، وهذا من المطابقات التي قلما نعثر عليها في اللغات الأخرى.
وقد يطال التغيير أو الحاجة الروحية له الأسماء الدالة على العهود البائدة، سواء كانت وثنيّة أن رجعية، أو استعمارية، لأن في الجماعية وتماهيها مع الذهنية المولّدة لهذا المناخ الجديد
ولا تأتي المطالبة بالمحافظة على الأٍماء القديمة وبقائها من رومانسية قرمزية الأحلام، ولا من هاجس عصابي برقى إلى عبادة الأجداد، وإنما هي من باب المحافظة على إرث تاريخنا، واحترام جهد من بنى وشاد، ممن زها بالإسم ورفعه إلى مصاف المقدس، فإعطاء الاسم إضفاء لوجود الشيء الفردي، وقد علّمنا أفلاطون هذا الخط من التعليل: “إن اسم الشخص أو الشيء تمثيل حقيي له:، فالإسم، هنا، يصبح المعلول نفسه، واختصاراً فإن الاسم يشكل البديل العقلي للأشياء وسواها.
التقليب اللفظي
في إشارة من البيئيين اللبنانيين إلى الكسارات التي تعمل على تغيير معالمنا الطبيعية (الجغرافية منها والأثرية على حد سواء)، ومطالبتهم بوضع “مخطط توجيهي” يضع حداً لهذه الفوضى العارمة، ووجوب ألا تبقى هذه المقالع خارج إطار التنظيم والتقنين، إلا أن هذا النهش المتعاظم في جسد هضابنا الوادعة أهون علينا – في كثير من الأحيان – من بعض الكسارات الثقافية التي تعمل على فرم عقولنا بـ”إنجازاتها الباهرة”!!! ولئن كانت الأولى تحدث تغييراً في مجال البيئة تسهم الثانية في تغيير معالمنا التاريخية من طريق بعض القراءات المبتسرة.
فما أن يعثر أحدهم، مصادفة، على شبه لفظي بعيد بين إحدى المواقع المكتشفة في أماكن قصية عن بلادنا، وبين بعض مواقعنا القديمة، حتى يسارع، للتو، إلى استتباع المكتشف بالمثورات لدينا كابراً عن كابر، وذلك خشية فرار هذا “الاكتشاف” من بين أصابعه الذهبية، دون أدنى تسلح بالحذر المعتبر – في أيامنا هذه – القانون الصلب لأي عمل علمي – وعملية الاستتباع هذه ليست نتيجة من نتائج الحفريات أو الكشوفات الأثرية، بطرائقها العلمية وبياناتها الأركولوجية التي يركن إليها، بل تتم المزاوجة بين الاسمين لمجرد توفّر مروية يصاقب جرسها الصوتي أسماء بعض من مواقعنا التاريخية، فتنتزع التسمية في منتأى بعيد عنه، بخصّبها هذا الاقتران القسري، نظير النخلة المستتبة في رصافة صقر قريش الأندلسية المتنائية “بأرض الغرب عن بلد النخل”.
اقرأ أيضاً: فتى الجبل في رثاء كامل بك الأسعد (1924)
وليس التقليب اللفظي وحده الأسلوب المتبع في التعرف إلى تاريخ الاسم وأصوله، فهنالك، معاجم وكتب ترتاج عرصات الأسماء أيضاً، تبحث في جيناتها الوراثية لتردها إما إلى أصولها السريانية أو الآرامية، وذلك على أساس الدلالة المعجمية للاسم. وسريان هذا التدوير يجري، عادة حسب الانتظام الداخلي للباحث أو المؤرخ، فإذا كان ذا نزعة سريانية، نراه بجهد معجم تلك اللغة تنقيباً وتمحيصاً، فيكثر من “الاوات” حتى يحصجص الحق إلى جانب “أو” أخيرة، تكون حسبما يشاء الفخاري من وضعه إذن الجرّة؟! أما إذا كان في مناصري الآرامية القديمة فالبحث عن مشتقاتها لا ينتهي حتى تحلو مياه البحر الميت!!
(مجلة شؤون جنوبية – العدد الثالث نيسان 2002)