
ديركيفا ضيعتي الجنوبية فيها عشت طفولتي وبربوعها نموت وترعرعت، وبمدرستها الابتدائية تعلمت، أما أحمد بطل قصتي هذه فهو أحد سكان ضيعتنا، وكان ابن بيت كريم وعائلة معروفة، وهو وإن كان على شيء من التخلّف العقلي الذي أورثه بطئاً في النطق والاستيعاب، إلا أنه تحلى بظر وفكاهة ولطف ووداعة جعلته يحوز عطف الجميع وعنايتهم صغاراً وكباراً.
الركيزة الصخرية
عرفته مذ وعيت وأنا طفل دون العشر سنوات وهو في العقد الثالث من عمره، ولم يكن يمرّ يوم تقريباً دون أن أراه ويكون بيني وبينه حديث، وذلك لوقوع مسكنه بمحاذاة الطريق المؤدي إلى منزلنا، وهو جالس على ركيزة صخرية ملاصقة لحائط منزله، يبادرني باستمرار “كوم” أي السلام عليكم، ثم يسألني عن والدي السيد هل هو في المنزل الآن أم لا؟ وأنه سيزوره بعد قليل ليشكو له “العالم” هذا مع أنني لا أذكر أنه دخل منزلنا يوماً أو طرق بابه زائراً.
اقرأ أيضاً: الجمالية والأصالة.. وصفحات مضيئة من الريف
و”العالم” موضوع الشكوى هم بعض أهل ضيعتنا ممن تعوّد المزاح معه دون اكتراث لزعله من التطفّل على شؤونه الخاصة والحساسة وبخاصة عندما يطال المزاح بقرته “السوداء” التي لا يسمح لأحد حتى لأفراد عائلته بأن يمسها، فهو الذي يخرجها للمرعى ويعود بها وهو الذي يحلبها ويقوم بتنظيفها، ويوم نادوه بصوت عال وزعموا أنها سُرقت وكان يستحم حينها خرج شبه عار يلعن ويشتم الأشقياء الذين أطاروا صوابه وروّعوه.
الحمرا
كنت كثيراً ما أراه بمواقف طريفة قد تجمَّع حوله نفر من أهل الضيعة، إما وهو يشرب عدداً كبيراً من زجاجات المشروبات الغازية طعم البرتقال وكان مغرماً بها ويسميها “الحمرا” وقد شرط عليه بعضهم أن يشرب مجاناً ولكن عدداً غير قليل مقابل ذلك، وإما مقلّداً إحدى الصبايا التي عادت من بيروت بعد غياب مدة وجيزة متناسية لهجتها الجنوبية متباهية بلهجتها المدنية البيروتية، وما زلت أذكر كيف كان يتحنجل في مشيته قائلاً: “كيفاك” بدلع يجعل الكل يغرق في ضحك طويل، هذا عدا المتفرقات من إنشاد أغنيات مشهورة، عتابا، قصائد حب، تقليد بعض العجائز… وغيرها من الطرائف.
لما انتهت حرب السنتين الاهلية 1975 – 1976 نزحنا إلى بيروت كما أكثر سكان القرى الجنوبية نتيجة الإهمال التربوي والصحي والخدماتي الذي كان يعانيه الجنوب عامة، من قلة المدارس وتدني مستواها التعليمي، إلى ندرة المستشفيات والمراكز الصحية.. فضلاً عن صعوبة الاتصال بين القرى فالطرقات كانت أكثرها زراعية حتى المعبَّد منها كان ينكشح عنها الزفت إلا من بقايا، حتى صح المثل النكتة أن “الوضع في الجنوب اللبناني كله زفت عدا الطرقات!!”
أما معضلة مياه الشفة فكانت قصة ورواية بحد ذاتها، إذ كانت تفرض على كل بيت اقتناء دابة وغالوني حديد ٢٠ ليتر على الأقل لنقل المياه من العين إلى المنازل، اما من لم يرغب في هذا الأمر، كان عليه شراء المياه بواسطة خزانات الجرارات الزراعية، ما يكبد العائلات مالاً وعناء لا طائل لكثير من الناس على تحمّله.
بيد أن استقرارنا في بيروت لم يحل دون العودة إلى الجنوب في أوقات متباعدة عدة بسبب العطل المدرسية وخاصة خلال فرصة “حبيبة قلبنا العطلة الصيفية الكبرى” إضافة إلى الموجات الجديدة من موجات القصف المتبادل بين المتحاربين شرقاً وغرباً الذي بدا يتجدد، وكان يؤدي إلى إقفال المدارس ونزوح مضاد للعائلات نحو القرى، وربما أمضينا أشهراً متنعّمين بجمال ضيعتنا التي كانت تتحول اثناء جولات الحروب تلك إلى بلدة صغيرة بما تحويه من نازحين، يزداد فيها عدد الأصدقاء والأصحاب وتكثر السهرات والرحلات صوب الأودية الغنية بالمجاري المائية والمناظر الطبيعية البكر، حتى إذا ما انتهت الأزمة وقرُب موعد العودة إلى العاصمة ودَّعنا بعضنا آسفين وتواعدنا لعطلة مدرسية قادمة أو لعطلة حربية تفرضها علينا فصول أحداث الحرب الأهلية في بيروت.
غزوة المغارة
ولما حلَّ العام 1982 واجتاحت إسرائيل لبنان في الشهر السادس منه كانت أيضاً ديركيفا هي الملاذ الآمن، فخرجنا مع من خرجوا من بيروت عندما بدأ حصارها ووصلنا قريبتنا آمنين، وفي اليوم التالي أخبرني أصحابي بما حدث في ديركيفا عند وصول جحافل العدو الإسرائيلي إليها فقد كانت المفاجأة غير متوقعة ولم يجرؤ أحد على الخروج من داره، إذ لم يكن أكثر المتشائمين يتصوّر أن يصحو على رؤية جنود إسرائيليين يتجولون بين المنازل.
أحمد هو الوحيد الذي لا يستطيع أن يدخل ويختبئ، فموقعه الطبيعي الدائم أمام منزله قرب الساحه، فلما لقيه المحتلون بادروه ولم يفطنوا لقصوره العقلي وسألوه: أين يوجد “مخرّب”؟ – أي الفدائيون الفلسطينيون كما درج إعلام العدو على القول – فأوما لهم أحمد ناحية المغارة وهي تقع في سفح جبل “الشميسة” المقابل للضيعة، فما كان من الجنود إلا أن صوبوا مدافعهم الرشاشة الثقيلة يمطرون بها المغارة والحقول المجاورة لها حتى تأكدوا بعد ساعة من قصفهم أن الهدف في حال وجوده قد دُمِّر أو أبيد. عندها ذهبوا يتأكدون ولما لم يجدوا أثراً لمقاتل حي أو ميّت قاموا بضرب أحمد وأشبعوه لطماً وركلاً ظانين أنه يسخر منهم، وكادوا أن يأخذوه معهم للتحقيق والحبس لولا أن استجمع بعض كبار السن قواهم وحالوا بينهم وبينه شارحين وضعه العقلي لجنود العدو الذين اقتنعوا بعد أن تأكدوا من صدق أقوالهم وغادروا القرية عائدين لمواقعهم، وقد كان لهذه الحادثة وقعها الأليم في القرية كما في وجدان أحمد، وأصبح كلما ذكر أحد اسم الإسرائيليين أمامه صاح بسرعة “أبوهم” يعني لعن الله أباهم، فقد أصبح يكرههم ويخشاهم ولا يطيق ذكر اسمهم.
أحمد هو الوحيد الذي لا يستطيع أن يدخل ويختبئ، فموقعه الطبيعي الدائم أمام منزله، فلما لقيه المحتلون بادروه ولم يفطنوا لقصوره العقلي وسألوه: أين يوجد “مخرّب”؟ – أي الفدائيون الفلسطينيون كما درج إعلام العدو على القول – فأوما لهم أحمد ناحية المغارة
خلال السنوات التي سبقت التحرير الأول للجنوب منتصف الثمانينات من القرن الفائت، لم يبق من شباب القرى في الجنوب اللبناني إلا قلة وذلك بفعل اعتقال الإسرائيليين لعدد منهم وترهيبهم للباقي فنوجه من تبقى منهم إلى بيروت للعمل وأنشأوا مصالح وفتحوا محلات تجارية وتعوّدوا حياة المدينة فطابت لهم مباهجها وبهارجها، فلما كان التحرير العام 1985 وعادوا إلى قراهم، استقر بعضهم وعمد إلى نقل مصلحته أو تجارته إلى الجنوب، ومنهم من بدا يتردد على قريته بعد أن عجز عن مغادرة العاصمة لأسباب معيشية.
غياب البسمة الطيبة
بعد وفاة أبيه بقي أحمد وأمه المسنة التي كانت البسمة الطيبة لا تفارق شفتيها أبداً، وأصبحت شريكته أكثر الوقت في الجلوس أمام المنزل مع اختلاف الحال طبعاً، فقد كانت رحمها الله على جانب كبير من الكياسة واللياقة والتعقّل وحسن تدبير الأمور، وكنت ألاحظ أحمد وقد أصبح دائم الشكوى والتذمّر من الشباب وتصرفاتهم واستغرابه تغيُّر أحوالهم فيشير لي دائماً إلى رأسه، أي أنهم أصبحوا لا يفهمون ولا يعقلون، والواقع أنهم فعلاً أصبحوا مختلفين ولم يعد احمد يستطيع أن يفهمهم، فقد تبدّلت الأحوال وتغيّرت، فإضافة إلى تحسنن الخدمات من المياه التي أصبحت تجر للمنازل بواسطة المواسير، إلى الطرقات التي شقّت ووُسعت وعُبّدت، والمدارس الرسمية والخاصة التي انتشرت، إلى تحسّن الوضع المالي العام للسكان، لذلك لم يبق الناس كما كانوا، حتى نحن الذين شببنا أصبحت أحاديثنا ومواضيعنا كلها مختلفة واهتماماتنا مختلفة، فقد تحولنا من مشغولين ومشدوهين بما جرى واستجد من تحولات، وأصبح همّنا متابعة كل ما هو جديد من مأكل في مطاعم حديثة أو ملابس في أحد مخازن الملبوسات في صور مثلاً ، وفي الصيف أصبحنا نمضي نهاراً كاملاً نسبح وتستجم على شواطئها ونعود بسياراتنا دون عناء إلى قريتنا، ثم نتسلى بقراءة الروايات الحديثة في المكتبة العامة التي افتتحت لاحقاً ونستمع بما نشهده في التلفزيونات ليلاً ومتابعة آخر الأفلام والمسلسلات فيها وربما تنوع حديثنا والرفاق ليشمل السيارات وآخر موضة الجينز والأحذية الرياضية، حتى اللهجة الجنوبية المحكية تبدّلت لتنوب وتسود اللهجة المدنية بمفرداتها وتعابيرها ما خلا قلة من الفلاحين بقي لسانهم على أصالته الجنوبية.
اقرأ أيضاً: بعض ملامح مدينة صور: مشرقية كالصبح… جميلة ومرهوبة كصفوف الرايات
أصبح أحمد يعد سنوات قليلة خامل الذكر في قريته، أكثرنا يتجنب كثرة الحديث معه “فخير الكلام ما قل ودل” والوقت ثمين والكلام مع أحمد مضيعة للوقت، فكنت أحياناً أراه كالعادة أمام داره فأحييه تحية سريعة فيرد بصوت خافت، وأحياناً أصادفه في خراج القرية يرعى بقرته العزيزة محدقاً بها وهي تقضم العشب مقرفصاً الى جانبها بلا تعب أو ملل،لقد كانت هذه سعادته الوحيدة المتبقية له.
سقط فجأة
هذا المشهد عاد إلى ذاكرتي بسرعة بعد أشهر عندما علمت أن أم أحمد توفيت وإن أقاربه أدخلوه مصحاً للأمراض النفسية والعصبية بعد أن باعوا بقرته،لقد كنت في بيروت.
يومها وأدركت هول الفاجعة على هذا العبد المسكين، إذ فقد كل شيء دفعة واحدة، وأدركت كذلك أن مشهد قريتي ديركيفا قد بدأ يتغير ، غير أن المفاجأة كانت بانتظاري نهاية احد الأسابيع موعد ذهابنا والعائلة إلى الضيعة، فبينما كنت ماراً أنا وصاحبي بمحاذاة منزل أحمد تذكرته وسألت رفيقي: ألا قل لي حقاً ما أخبار أحمد.. وكيف هو في المصح؟ قال: ألا تدري حقاً أنه مات أم أنك تسخر مني؟ تفاجأت وقلت بشكل عفوي: حقاً؟ كيف مات؟ فأجاب: يظهر أنها نوبة قلبية، لقد سألت ابن أخيه فقال إنه أشار ناحية قلبه لأحدهم في المصح وسقط فجأة!
نظرت ناحية ركيزته الصخرية الخالية وقلت: أشار أحمد ناحية قلبه، نعم لقد كان يملك قلباً…فمات.
(مجلة شؤون جنوبية – العدد الثاني آذار 2002)