خطة ترمب للسلام أو «صفقة القرن» أشياء كثيرة في رزمة واحدة: هي مناورة في السياستين الداخليتين الأميركية والإسرائيلية لقيادتين تعانيان أزمتي شرعية عميقتين. وهي إعلان انتخابي للإدارة الأميركية الحالية عن اختيارها اليمين المسيحي جمهوراً مفضلاً تعوّل عليه لإعادة انتخاب دونالد ترمب في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل. وهي قبل ذلك وبعده ادعاء بالنصر النهائي لتحالف ترمب – نتنياهو في الصراع الذي فشل الجميع في تسويته.
الجانب الآخر من الصراع؛ الفلسطينيون، يخاطبون كمدعوين لحضور جنازتهم… عليهم ألا يخفقوا في اغتنام هذه الفرصة الأخيرة على غرار إخفاقاتهم السابقة؛ على ما قال مهندس الخطة جاريد كوشنر، كبير مستشاري ترمب، في المقابلة التي أجرتها معه قناة «سي إن إن» بعد سويعات من حفل الإعلان في البيت الأبيض. هذا الكلام ليس سوى نسخة تكررت عشرات المرات عن «نصائح ودية» وجّهها مسؤولون أميركيون وغربيون إلى الفلسطينيين بالتحلي بالواقعية وقبول ما يُعرض عليهم لأن خسارتهم ما تبقى لديهم مؤكدة. وقد صيغت هذه النصائح على نحو أو آخر منذ قرار مجلس الأمن «181» الذي قسم فلسطين إلى كيانين؛ يهودي وعربي، ورفضه الفلسطينيون فيما استغله الإسرائيليون لإعلان إنشاء دولتهم.
قد لا تكون المراجعة التاريخية لمسار الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي في صالح الفلسطينيين والعرب عموماً، بيد أن العودة الدائمة إلى لغة الابتزاز والتهويل بما سيأتي في حال لم يلتحق الفلسطينيون والعرب بقطار الصفقة الذي يوشك أن يغادر المحطة إلى حيث لا رجوع، فيها كثير من التجاوز على حقائق الواقع ومحاولة استغلال الحد الأقصى من لحظة سياسية مواتية لحكومة اليمين المتطرف الإسرائيلي وحليفها في البيت الأبيض. السعي هذا إلى فرض أمر واقع في سياق ممارسة انتهازية تركز على حالة الضعف الفلسطينية والتفكك العربي والتجاهل الدولي، ليس فتحاً في بابه ولا أولاً في نوعه. لكن أصحابه يدّعون هذه المرة أنها المعركة الحاسمة التي لن تقوم بعدها قائمة لمعارضي «صفقة القرن». لذلك سارع نتنياهو إلى إدراج مسألة ضم مستوطنات الضفة إلى إسرائيل على جدول أعمال حكومته يوم الأحد 2 فبراير (شباط) المقبل.
على صعيد ثانٍ؛ لن تحمل التقديمات الاقتصادية المقترحة ضمن الخطة نقلة نوعية في مستوى معيشة السكان الفلسطينيين. إغراء الخمسين مليار دولار الذي ذكره ترمب في كلمته، ظهرت ضحالته أثناء المؤتمر الذي تناول الجانب الاقتصادي وعقده كوشنر في العام الماضي. خمسون مليار دولار على مدى عشر سنوات يذهب قسم كبير منها إلى الدول التي يقيم اللاجئون الفلسطينيون فيها لتوطينهم والتنازل عن حق العودة، مهزلة لا تستحق الرد.
في المقابل، يعطي النظر المتمعن في الخريطة التي وزعتها الإدارة الأميركية للمناطق المخصصة للفلسطينيين، فكرة دقيقة عن المقصود بعزل المدن في الضفة الغربية بعضها عن بعض، وإقامة منطقتين – صناعية وسكنية – قرب الحدود مع سيناء. وقد تحدث عدد من المسؤولين الإسرائيليين من بينهم نتنياهو ومنذ أعوام عن «الحل الاقتصادي» للقضية الفلسطينية، وخلاصته تحويل المدن الفلسطينية إلى معازل مطوقة بالأسيجة والجدران تكون مهمتها تأمين اليد العاملة الرخيصة للصناعات الإسرائيلية في مجالي البناء والزراعة وتوفر، من الجهة الثانية، مدخولاً للمواطنين الفلسطينيين الذين سيظلون تحت سيطرة الحكومة ورب العمل الإسرائيلي وخاضعين لشروطه.
يعيد التصور هذا، خصوصاً المنطقتين الصحراويتين الجديدتين قرب الحدود المصرية، استنساخ تجربة «البانتوستانات» التي أقامتها حكومة جنوب أفريقيا لأبناء الأكثرية السوداء أثناء فترة «الأبرتايد» ورمت من خلالها إلى منع السود من تنظيم أنفسهم في كيانات سياسية مستقلة واستغلالهم في المناجم وغيرها من الصناعات بوصفهم يداً عاملة خاضعة ومستلبة.
اقرأ أيضاً: خطة ترامب ضوء أخضر لاحتلال دائم في عين الفلسطينيين
الفشل المرتقب لهذه الخطة للأسباب المتعلقة بطبيعتها الانتخابية وتجاهلها الطرف الآخر تجاهلاً كلياً، ينبغي ألا يحول دون تسليط الأضواء على ما جعل مثل هذا الطرح ممكناً وقابلاً للتكرار؛ بل للرسوخ على أنه معطى دولي جديد. بكلمات ثانية، تقفز مراجعة الحاضر ونقده رغم جهود الابتعاد عن المراجعة التاريخية. أول هذه الأسباب هو الانقسام الفلسطيني الكارثي الذي لم يجد أحد حلاً له منذ تحوله صراعاً مفتوحاً في 2007. الأضرار التي تركها هذا الانقسام غير قابلة للترميم ولا للحصر، وتبدأ باستدخال قوى إقليمية لها حساباتها البعيدة عن المصلحة الوطنية الفلسطينية ولا تنتهي بتحطيم القدرة على بناء برنامج وطني موحد. السبب الثاني يتمثل في انهيار القاعدة العربية المساندة للقضية الفلسطينية التي انقلبت مادة للمزايدة وتبرير الديكتاتوريات والأنظمة الاستبدادية والقضاء على كل تطلع ديمقراطي في العالم العربي. مسّ السلوك الرسمي العربي هذا بالقيمة الرمزية للقضية وجعلها عبئاً معنوياً على الشعوب ووضعها في موضع النقيض لدعوات التحرر والتقدم.
السبب الثالث أن خطة ترمب قد تُبعث في المستقبل على أيدي خلفاء له قد لا يتفقون معه على شيء إلا ضرورة طي صفحة الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي كيفما اتفق، أخذاً في الاعتبار افتقار الجانب المهزوم والمظلوم إلى المظلة السياسية العربية والدولية.