بعد اصطياد «الثعلب الإيراني»… أي سيناريوهات «مرجحة» للتصعيد بين طهران وواشنطن؟

قاسم سليماني

رغم هدوء حدة “الصدمة” لا يزال غبارها متناثراً بشأن ما ستسفر عنه تداعيات مقتل قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، والقيادي في الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس، اللذين شُيع جثمانهما اليوم في العراق وسط حضور عراقي وإيراني رسمي.

فبعد أكثر من 24 ساعة على الحادث الذي اعتبره مراقبون “أعمق وأكبر من عملية تصفية زعيمي داعش والقاعدة أبو بكر البغدادي، الذي قتل في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وأسامة بن لادن، الذي قتل في مايو (أيار) 2011″، لا تزال الأجواء تشي بكثير من الغموض، رغم هدوء نبرة الوعيد، فضلاً عن تباينها بين طهران ووكلائها من ناحية وواشنطن من ناحية أخرى، غداة سيل من التهديدات والتحذيرات المتبادلة تلت حادث فجر الخميس الجمعة، وتزامنت معها تطورات ومواقف عسكرية وأمنية وسياسية على مستوى المنطقة.

ووسط هذا المشهد المضطرب، ومع تكشف المزيد من التفاصيل حول قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب، بتصفية ثاني أقوى رجل في إيران، ومهندس نفوذها وعملياتها في الخارج، تبقى الأسئلة حائرة، لدى الداخل الأميركي والإيراني، بشأن ما قد تشهده الأيام المقبلة من تصعيد، وما الذي سيتغير على صعيد معادلات التوازن في المنطقة، وكيف بدت الأوضاع غداة ما بات يعرف بـ”عملية البرق الأزرق” لاصطياد “الثعلب الإيراني”؟

كواليس قرار ترمب

وفقما كشفته صحيفة “لوس أنجلوس تايمز” وتقارير أميركية أخرى، عن كواليس قرار ترمب، فإن الرئيس فضّل “تصفية” سليماني على خيارات أخرى عرضها عليه فريق الأمن القومي الأميركي عندما زاروه في منتجعه بفلوريدا يوم 30 ديسمبر (كانون الأول) الماضي.

وذكرت الصحيفة، نقلاً عن مسؤول أميركي، أن وزير الخارجية مايك بومبيو، ووزير الدفاع مارك إسبر، ورئيس هيئة الأركان المشتركة مارك ميلي، ذهبوا إلى مدينة بالم بيتش جنوبي فلوريدا، لإطلاع ترمب على تفاصيل الغارات الجوية التي نفذتها وزارة الدفاع (البنتاغون) في العراق وسوريا ضد ميليشيات شيعية مدعومة من إيران، فضلاً عن عدد من الخيارات يمكن أن تتبناها واشنطن لمناهضة النفوذ الإيراني، بينها استهداف قاسم سليماني قائد فيلق القدس.

وأشارت إلى أنه وخلافاً للتوقعات، فضّل ترمب خيار “تصفية سليماني”، مدفوعاً في ذلك بآراء مستشاريه الذين يميلون لاتباع سياسات متشددة تجاه إيران، حسبما ذكر المسؤول الأميركي للصحيفة.

إقرأ أيضاً: مقتل «سليماني»: احتمالات التصعيد الأمريكي- الإيراني في العراق

وأوضحت، أنه وبعد دقائق فقط من نهاية الاجتماع مع ترمب، لاحت أول بادرة بشأن أن الولايات المتحدة يمكن أن تتخذ مزيداً من الخطوات نحو تحقيق هدفها، حين قال وزير الدفاع للصحافيين، “في مناقشتنا اليوم مع الرئيس بحثنا معه الخيارات الأخرى المتاحة. وأود أن أشير أيضاً إلى أننا سنتخذ إجراءات إضافية عند الضرورة”. موضحة، “يبدو أن ترمب أطلق أوامره لكل من البنتاغون ووكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي إيه) وجهات أخرى تهدف إلى تحديد موقع الجنرال الإيراني ونشر أصول عسكرية لقتله”.

وبحسب الصحيفة، فإن الـ”سي آي إيه”، التي كانت تتعقب سليماني منذ سنوات، علمت أنه كان في رحلة مطولة إلى الشرق الأوسط أخذته إلى لبنان وسوريا، وستقوده جواً من دمشق إلى بغداد في غضون أيام على متن رحلة غير سرية تهدف في ظاهرها إلى عقد اجتماعات مع المسؤولين العراقيين.

هذه الرحلة، وفقما أوضحت مصادر أميركية، نقلت عنها وكالة رويترز، كان يهدف من ورائها إلى “إنهاء المراحل الأخيرة في التخطيط لهجمات كبرى ضد منشآت أميركية في العديد من دول الشرق الأوسط، وكان سليماني سيذهب بنفسه إلى عدة مواقع للحصول على صلاحية التخطيط النهائي لما قيّمنا أنه شيء كبير”. وكانت الأهداف المحددة غير واضحة، ورفض المسؤولون وصف الأدلة التي دعمت تقييمهم.

وبحسب “رويترز”، عقد سليماني اجتماعاً في منتصف أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، مع قادة ميليشيات شيعية تدعمها طهران في فيلا على ضفاف نهر الفرات، تطل على مجمع السفارة الأميركية في العاصمة العراقية بغداد، وجَّه خلاله أكبر حلفائه في العراق أبو مهدي المهندس نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي، الذي قُتل أيضاً في الضربة الأميركية، وغيره من قادة الميليشيات الأقوياء، بتصعيد الهجمات ضد أهداف أميركية بالعراق، باستخدام أسلحة جديدة متطورة زودتهم بها إيران.

وذكرت الوكالة أنه في الفيلا التي التقوا فيها، وجَّه سليماني القادة المجتمعين بتشكيل ميليشيا جديدة من الجماعات شبه العسكرية الأقل شهرة (غير المعروفة لدى الولايات المتحدة)، التي يمكنها تنفيذ هجمات صاروخية ضد الأميركيين المتمركزين في قواعد عسكرية عراقية.

وكانت واشنطن اتهمت سليماني بأنه متورط في الهجوم الصاروخي يوم 27 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، الذي أسفر عن مقتل متعاقد عسكري أميركي قُرب مدينة كركوك. وفي الأيام التي سبقت وصول سليماني إلى بغداد، اتهمه مسؤولون أميركيون أيضاً بأنه المسؤول عن تنظيم الاحتجاجات العنيفة بمحيط سفارة الولايات المتحدة في بغداد.

تباين في التهديدات الإيرانية

وغداة تهديد المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني بما وصفه “عواقب لا مفر منها” جراء مقتل القائد العسكري قاسم سليماني (62 عاما)، واعتبار عملية قتله “أكبر خطأ استراتيجي” للولايات المتحدة في غرب آسيا، وتوعد كافة قيادات الدولة الإيرانية بـ”انتقام شديد ينتظر الذين تلطخت أيديهم بدماء سليماني”، تغيرت وتباينت اللهجة الإيرانية التصعيدية وبدت أكثر “تواضعا” في تهديداتها، ما يزيد من الغموض بشأن “الأهداف المرجحة” التي قد ترد من خلالها طهران خلال الأيام المقبلة.

وبعد ساعات من إبلاغ إيران على لسان سفيرها في الأمم المتحدة، مجيد تخت روانجي، مجلس الأمن الدولي والأمين العام للمنظمة الأممية أنطونيو غوتيريش بأنها تحتفظ بحقها في الدفاع عن النفس بموجب القانون الدولي بعدما قتلت الولايات المتحدة قاسم سليماني. معتبراً أن قتله “مثال واضح لإرهاب الدولة ويمثل انتهاكا صارخا للمبادئ الأساسية للقانون الدولي، خصوصا تلك المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة”، تباينت تصريحات كبار القادة العسكريين في إيران اليوم السبت، وبدت أنها قد “تكون أكثر تريثاً” في ردها المزمع.

فمن جانبه، قال كبير المتحدثين باسم القوات المسلحة الإيرانية أبو الفضل شكارجي، اليوم السبت، إن “إيران ستمتنع عن أي رد متهور ومتسرع على مقتل سليماني”. لكنه أضاف، في حديث نقلته وكالة “مهر” الإيرانية للأنباء، “أن الانتقام سيكون وفقاً لما يطالب به الشعب الإيراني”. كما اعتبر شكارجي، “أنه في حال حصول أي حرب في المنطقة، فإن مشعلها الرئيس هي واشنطن. وستنال ضربة قاسية تجعلها تندم”.

في سياق متصل، نقلت وكالة “مهر” عن نائب قائد الحرس الثوري العميد علي فدوي تعليقه على الرسالة التي سلمتها الولايات المتحدة لإيران عبر القائم بالأعمال السويسري في طهران، وجاء فيها، “الرسالة الرسمية الأميركية طلبت ألا يتجاوز حجم الرد سقف الانتقام لسليماني فقط”، وأضاف معلقاً، “لا يمكن لواشنطن أن تحدد شكل وطبيعة وسقف الرد بعد اغتيالها سليماني”.

في المقابل، قال محسن رضائي، أمين مجمع تشخيص مصلحة النظام في إيران، “نعد بأن ثأرنا سيكون قاسياً جداً بحيث لا تجرؤ أي دولة أخرى على ارتكاب مثل هذه الأعمال”، في معرض تعليقه على مقتل سليماني. كما اعتبر رضائي، أن “أميركا أقدمت على انتحار سياسي وعسكري باغتيالها سليماني. إذا اندلعت حرب فإن الرئيس الأميركي دونالد ترمب ليس أهلا لها”، حسب وصفه.

هي الأخرى تباينت ردود فعل وسائل الإعلام الإيرانية الصادرة اليوم السبت، التي احتلت صورة قاسم سليماني العناوين الأولى للصحف من دون استثناء، بشأن الرد على الحادث.

وبين ما هو إصلاحي وأصولي، دعت الأولى للتريث والتفكير بعمق قبل الرد والحذر من اتخاذ قرارات عاطفية، فيما طالبت الثانية بالانتقام الشديد والسريع.

وبحسب صحيفة “فرهيختكان” الأصولية، فإن مقتل قاسمي “سيقسم تاريخ السياسة في إيران إلى ما بعد اغتيال قاسمي، وما قبل اغتيال قاسمي”، موضحة أن السياسة الخارجية الإيرانية ستختلف من الآن وصاعداً، وأن سياسة الأمل في التعامل مع أميركا “انتهت”.

في الاتجاه ذاته، اعتبر رئيس تحرير صحيفة “كيهان” المتشددة، حسين شريعتمداري، أن “جميع الاستعدادات جاهزة للانتقام الشديد من الولايات المتحدة، والتأخير في الانتقام للشعب يسيئ له”، واعتبر شريعتمداري، أن إرسال واستقبال الرسائل مع السفارة السويسرية خدعة من الولايات المتحدة لتهدئة الأوضاع. مشيراً إلى أن بيان مجلس الأمن القومي الإيراني بـ”الرد والانتقام الشديد في الوقت والمكان المناسبين يعني من الناحية الدبلوماسية أن الأمر غير محسوم”.

في المقابل، دعا البرلماني علي مطهري، في صحيفة “اعتماد” إلى “الانتقام ضمن الوقت والحسابات المناسبة”. مطالباً بضبط النفس مع وعد الانتقام الشديد. كما كتب إصلاحي آخر، هو غلام علي رجائي، في “اعتماد” أن “على القيادات أن تتجنب المواجهات العاطفية حالياً”.

أي خيارات أرجح للرد؟

وفقما أجمعت التقارير والمحللين الغربيين، فإن “تصفية سليماني القائد الإيراني القوي خطوة تصعيد كبير للصدام الأميركي الإيراني، وضربة قوية لطهران”.

وبحسب صحيفة “نيويورك تايمز”، فإن المصالح الأميركية، لا سيما آلاف القوات العسكرية الموجودة في الشرق الأوسط، باتت هدفا للهجمات الإيرانية، موضحة أن “رد إيران قد يحدث في أي مكان، من الخليج إلى أميركا اللاتينية مرورا بأفريقيا”.

من جانبه، يتوقع باتريك كوكبيرن، في مقال له بصحيفة “آي” البريطانية، أن يتحول العراق إلى ساحة حرب بين الولايات المتحدة وإيران. مرجحا ألا تكون المواجهة بينهما في شكل حرب شاملة ومباشرة، ولكن العراق سيكون الساحة التي يتقاتل فيها الأميركيون والإيرانيون.

وبحسب الكاتب فقد لا يلجأ الإيرانيون وحلفاؤهم العراقيون إلى عمليات انتقامية فورية ضد الولايات المتحدة، ولكن رد فعلهم القوي سيكون الضغط على الحكومة العراقية والبرلمان والأجهزة الأمنية لإخراج الأميركيين من البلاد.

ويذكر الكاتب أن طهران كانت دائما الأقوى في أي صراع من أجل النفوذ في العراق بفضل الأغلبية الشيعية التي تسيطر على الساحة السياسية بدعم إيراني. ويقول إن نفوذ إيران تراجع في الفترة الأخيرة بسبب جهود سليماني في قمع الاحتجاجات الشعبية بطريقة وحشية أدت إلى مقتل 400 شخص وإصابة 1500 بجروح. إلا أنه وبحسب كوكبيرن، فإن الغارة الجوية الأميركية في بغداد ستخفف من حدة الغضب الشعبي المتزايد ضد إيران بسبب تدخلها في الشؤون الداخلية العراقية إذ إن الهجوم الأميركي انتهك سيادة العراق، ولا يمكن أن تصور تدخلا أجنبيا أكثر فداحة من قتل جنرال أجنبي دخل العراق علنا وبطريقة قانونية.

بدورها رأت افتتاحية “التايمز” البريطانية، أن مقتل قاسم سليماني قضى على رجل شرير كان يقود أعمال التخريب الإيرانية في الشرق الأوسط، ولكن الولايات المتحدة مطالبة بوضع خطة لمواجهة الانتقام الإيراني المتوقع. معتبرة أن التبرير الأمثل لقتل مثل هذه الشخصية البارزة هو تعزيز محاصرة نظام إيران العدائي. ولكنه في الوقت نفسه يثير الانتقام ويحسد الدعم والولاء للملالي. وعلى ترمب أن يطمئن الأميركيين والحلفاء أن لديه استراتيجية لمواجهة مثل هذه التطورات.

بدوره، كتب كريم سجادبور، باحث بارز في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي على “تويتر”، “أن على المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي أن يزن رد الفعل بعناية”، موضحاً أن “الاستجابة الضعيفة تخاطر بفقدان ماء الوجه، والاستجابة المفرطة في القوة تخاطر بفقدان رأسه. خامنئي هو الخصم الدولي الأكثر أهمية بالنسبة لترمب في عام 2020”. مرجحاً “هجمات مستمرة بالوكالة ضد المصالح الأميركية وحلفاء واشنطن على المستوى الإقليمي وحتى العالمي”.

من جانبه، يعتقد علي الفونة، باحث في معهد دول الخليج العربية بواشنطن، أن من غير المرجح أن تسارع إيران لاتخاذ إجراء. قائلاً “إيران ليس لديها خيار سوى الرد والانتقام لاغتيال سليماني. لكن طهران تتسم بالصبر وتوقيت وطبيعة هذه الضربة ليس معروفا لنا بعد”.

ووفقا لتقرير أصدرته وكالة المخابرات الدفاعية الأميركية في ديسمبر (كانون الأول)، فإن القوة العسكرية الإيرانية تعتمد على ثلاث قدرات أساسية هي برنامج الصواريخ الباليستية والقوات البحرية، التي يمكن أن تهدد الملاحة في الخليج الغني بالنفط، ووكلاء الفصائل التابعة لها في بلدان مثل سوريا والعراق ولبنان.

وتقول إيران إنها تمتلك صواريخ دقيقة التوجيه وصواريخ كروز وطائرات مسيرة مسلحة قادرة على ضرب القواعد العسكرية الأميركية في الخليج، والوصول إلى إسرائيل العدو اللدود لطهران وحليف الولايات المتحدة. ويمكن لصواريخ شهاب الباليستية محلية الصنع، التي يصل مداها إلى 2000 كيلومتر، حمل عدد من الرؤوس الحربية.

وردا على مقتل سليماني، يمكن لطهران أو وكلائها مهاجمة ناقلات النفط في الخليج والبحر الأحمر، وهو ممر شحن عالمي رئيس للنفط وغيره من التجارة لأنه يربط المحيط الهندي بالبحر المتوسط ​​عبر قناة السويس.

ووفق مراقبين قد تؤدي المواجهة العسكرية أو التوتر المتزايد إلى وقف تدفق النفط عبر مضيق هرمز، الذي يمر عبره خُمس إنتاج النفط العالمي. ويمكن لمثل هذا الانقطاع، ولو لفترة قصيرة، أن يؤثر على الولايات المتحدة والعديد من البلدان في جميع أنحاء العالم.

ولا تستطيع إيران من الناحية القانونية إغلاق الممر المائي من جانب واحد، لأن جزءاً منه في المياه الإقليمية لسلطنة عمان. ومع ذلك، تمر السفن عبر المياه الإيرانية، التي تقع تحت مسؤولية بحرية الحرس الثوري.

ويمكن لطهران استخدام صواريخها وطائراتها المسيرة والألغام وزوارقها السريعة ومنصات إطلاق الصواريخ في منطقة الخليج لمواجهة الولايات المتحدة وحلفائها.

وفي السنوات الأخيرة ، كانت هناك مواجهات متكررة بين الحرس والجيش الأميركي في الخليج. وكرر مسؤولون أميركيون أن إغلاق المضيق سيتجاوز “خطا أحمر” وإن أميركا ستتخذ إجراءات لإعادة فتحه.

السابق
ماذا سيحدث إن طرد العراق الأميركيين؟
التالي
بالفيديو.. خامنئي يكرّم سليماني ورفاقه في طهران