
ثمانية عشر طائفة دينية تتحارب وتتناحر وتختلف وتشتبك لكنها تظل محكومة بتوافق يتأرجح بين خطي الحرب والسلام.
نقمة الاختلاف أضاعت هوية هذا البلد الصغير القابع في قلب الشرق وعينه على الغرب. فلا المسيحيون عرفوا طريقاً لمشكلتهم مع العروبة، ولا المسلمون وجدوا سبيلهم النهائي الى قوميتهم العربية. اتجه المسيحيون نحو الغرب ولجأ المسلمون الى أحضان العرب، وكل طرف لم يأكل العنب ولم يستطع قتل الناطور، وظل ضائعا بين هويتين.
وسط هذا الضياع كانت الحرية التي فرضها التنوع، وكان لارتباطهم الوثيق بالغرب أثراً فريداً على ذلك. وجد اللبنانيون في الحرية خلاصاً لهم، حتى كرسها الدستور بأوجهها المختلفة بدءاً من حرية المعتقد وليس آخرها حرية الرأي والتعبير حتى صارت بنداً قانونياً صعب المساس والمراس.
اقرأ أيضاً: الحراك لا يحتاج الى قيادة
ما يجري اليوم في لبنان من ثورة شعبية غير مسبوقة هو ليس فقط انتفاضة على الفساد وهدر المال العام وسوء ادارة الدولة ومحاصصة قطاعاتها ومرافقها وفقاً لحجم الطوائف، إنها انتفاضة مكبوتة على الحرية، التي لطالما حاول كل طرف أخذها لضفته وهويته، وبين الأخذ والرد تصادمت مفاهيمها واختلفت. فلا المارونية السياسية التي حكمت في السياسة في ستينيات وسبعينات القرن الماضي استطاعت فرض هويتها، ولا السنية السياسية الممثلة بالحقبة الحريرية والتي حكمت بالاقتصاد استطاعت ارضاء كل الشارع، ولا الشيعية السياسية التي تحكم البلاد حالياً بالأمن قادرة على فرض مفاهيمها السياسية والدينية.
لكن المفهوم العام للحرية ظل متحكماً في مسارات اللعبة السياسية التي كان خطاها بطيئاً في حل كل المشاكل السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد.
اذن هي انتفاضة مكبوتة على حرية أثرت على لعبة الطوائف وجعلت منها مسرحاً لحروب أهلية متعاقبة حين تجاوز اللبنانيون حدود حريتهم في صراعاتهم وأساؤوا استعمال حقوقها.
انطلق الربيع العربي، وكان لبنان آخر من ركب موجته، فاللبنانيون محكومون بصراعات ثمانية عشر زعيماً لطوائفهم مع أزلامهم وأجهزتهم، وهذا مخالف لواقع الحال في الدول العربية التي تسعى لاسقاط نظام حاكم فاسد مع حاشيته. استدرك اللبنانيون الموجة أخيراً بعد أن ضاق بهم الحال جراء استشراء فساد غير مسبوق. فكانت ثورتهم الشعبية التي لم تشبه أي ثورة عربية، تناقضاتهم جعلتهم يحولون ثوراتهم فرحاً ورقصاً وأغنية كما حولوها في الماضي حروباً. فعاشت الأغنية مع ثوراتهم كما انتصاراتهم وانهازاماتهم.
هذه الانتفاضة الشعبية على النظام الطائفي كانت عرساً وطنياً سعى من خلاله المنتفضون الى غسل خطاياهم عن تدمير بلدهم.
اقرأ أيضاً: ثورة أبعد من تغيير نظام
ولأن لبنان العربي لا يستطيع أن يعيش معزولاً عن محيطه راح المتظاهرون الفرحون يرسلون تحاياهم الثورية الى كل من فلسطين المحتلة والعراق وتونس ومصر وسوريا وليبيا والجزائر والسودان، يثورون، يصرخون، يغنون، يرقصون يجوبون ساحات الثورات ثم يعيشون استراحة المحارب.
حتى إبان الحرب الأهلية التي انطلقت العام 1975 كانت صيحات الرقص والموسيقى في المطاعم والملاهي الليلية تعقب أصوات القذائف ورائحة الموت.
شعب أصابه الغرور من فائض تعلقه بالحرية، وهو يرى فيها ميزة علمها لمحيطه العربي.
وها هو لبنان اليوم يحاول استعادة جزء من فائض حريته المسلوبة التي تقسمت وتقاطعت محلياً واقليمياً ودولياً وفقاً للارتباطات الخارجية لكل طرف من أبنائه.
وها هو هذا البلد الصغير يجاهد لاعادة احتضان أمته العربية ضمن منطوق حريته الخاصة القائمة على النغمة واللحن والرقص لاسقاط نظام فاسد.
إنها فرصة لبنان واللبنانيين لإعادة تصويب مفهوم الحرية وبناء بلدهم الصغير.
قد تكون الأرضية المحلية شبه جاهزة لذلك، فهل الأرضية الإقليمية والدولية جاهزة لتلقفها.