
في زمن إقفال مطار بيروت في الثمانينات من القرن الماضي ، كان السفر الى صوفيا-بلغاريا إضطراريا يمر ّعبر مطار دمشق الدولي وكانت رحلتنا تمرّ بأثينا.
إقرأ أيضاً: العراقيون «ينتخبون».. في الشارع!
في صالة الترانزيت في مطار اثينا، التقيت صدفة بزميل دراسة من نابلس، قادم على طائرة من عمان باتجاه صوفيا، ما ان تعانقنا وجلسنا حتى سمعنا من خلفنا شبانا عرباً يتحدثون عن فلسطين، عرفهم صديقي عماد وهمس لي :
-لا تخبرهم انك شيعي.!
انزعجت من طلب عماد، ولم أفهم ما القصد، التفت عماد صوبهم وناداهم، جاؤوا الاربعة ليعانقوه الواحد تلو الآخر وبعد التحية والسلام عرفوا اني من لبنان واسكن بيروت.
ومن حديث الى حديث آخر أتوا على سيرة دلال مغربي، دلال التي تزيّن صورتها غرفتي في السكن الجامعي الى جانب صور الشهيدات سناء محيدلي ، لولا عبود والاسيرة سهى بشارة.
قلت ببراءة :
-الشهيدة دلال مغربي يا شباب، رحمها الله.
وهنا بدات السهام والرماح والسيوف تنهال عليّ من كل حدب وصوب، بالغوا بالإساءة لها، لم أصدّق ما اسمعه ،كانت صدمتي النفسية -السياسية -الوجودية الأولى، كانت الصدمة تلك، إنعطافتي الفكرية الاولى من قناعات دينية الى قناعات إنسانية أممية، لم اتصوّر يوماً وجود أناس يحولون البطولة الى قمامة ويجعلون من أبطال هياكل هزيمة، انفعلت وتصدّيت لأمنع تفكك كينونتي السياسية، لأمنع انهيار بنيان الموروث الثقافي بداخلي،لأمنع تحولي لكافر، كلّ ذلك وصديقي عماد صامتً لا يتكلم.
قال اكبرهم الذي علّمهم السحر الديني -السياسي محدّقا بي ،بعينين صائبتين مخيفتين:
-اجبني يا فتى، هل تؤمن بالله؟
(لم يسألني احد هذا السؤال من قبل، لاعتقادي الفطري ان كل الناس تؤمن بالله.)
اكمل قائلاً:
–شباب عملية كمال عدوان خرجوا بقارب مطاطي من ساحل جنوب لبنان وعلى الارجح من شاطىء صيدا،كم استغرقت الرحلة للوصول الى ساحل فلسطين ؟
طبعا لا تعرف، لأنك كشعبنا جاهل، لا تفقه بالامور، ساخبرك، طالت الرحلة كل ساعات الليل ، هل سمعت؟ كل الليل، وهي وحدها في القارب بين الشبان، هل فهمت! ؟ أخبرني ،ما حاجة الانسان من الوقت لكي يضطرّ ان يقضي حاجته الصغيرة (“يبول”) ؟، الم يعلموكم هذا الامر في الدول الشيوعية الكافرة؟!
كيف قضت حاجتها وهي في قارب مطاطي في عرض البحر؟
وهل شاهدت بالصور باراك عند جثتها المكشوفة الصدر؟هل هذا حرام ام لا؟ اجبني؟!
لا جواب لديك، لانهم غسلوا دماغك جماعة “فتح”و الجبهة الشعبية الشيوعية والحركة الوطنية في لبنان ، ليست بشهيدة ومن افتى لها ان تقاتل؟!
سألني الجالس بقربه، هل انت من بيروت او تسكن بيروت؟
هنا كان الحسم لترددي، بين ان ارفع الصوت وبين ان اصطدم بهم و ان أغادر المكان، لم اتصور ان هناك من يقرأ عملية كمال عدوان من زاوية يجوز ولا يجوز، من نقطة حلال وحرام، من منطلق طهارة ام نجاسة؟ كان قراري قد اتخذ بذهني بالصدام والاشتباك معهم بل باستفزازهم ايضا.
أجبت باعتزاز وباستفزاز رغم عدم قناعتي بالاجابة:
-انا من النبطية.
ما ان سمعوا اني من النبطية حتى فهم الاربعة اني من الاخوان الشيعة فإذ بأكبرهم يقول:
-الآن فهمنا، وتغامزوا فيما بينهم وسمعت اصغرهم يقول بصوت خافت وبإشمئزاز :
-كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، هذا شيعي .
قاموا فورا واعتذروا من صديقي وتجاهلوني ومضوا الى طائرتهم المتوجهة الى لندن.
لندن اخت المسلمين الحنونة بينما نحن قمنا باتجاه صوفيا الكافرة عدوة المسلمين التي تعلمنا مجاناً.
آنذاك كنت لم ابلغ بعد الواحد والعشرين من عمري ولم اكن ادري بعد، ان العالم العربي يعجّ بالأمراض النفسية المعدية وبأننا مشاريع إجرام وفتن متنقلة، اننا ادوات فكرية تخدم اسرائيل مجاناً.
خطوات قليلة وقال لي عماد:
* سيخبرون ابي لاحقا ان لي صديقا شيعيا وسيخاف ابي من صحبتك، هل انت مسرورا الآن؟انهم من حزب xyz، كانوا يلاحقون ويطاردون شباب وصبايا الجبهة الشعبية في جامعة نابلس اكثر من جنود الجيش الاسرائيلي…
و دارت الايام، ومرّت الايام، وعدت الى بيروت خلال عطلة الصيف لألتقي باحد زملاء الدراسة الثانوية من اخواننا الشيعة ومن حديث الى حديث آخر وجدته عاتبا بأدب على عملية سناء محيدلي ويرفض تسميتها بشهيدة لان لا احد اعطاها الاذن او الفتوى ان تفجر جسدها وان تنشره في الهواء طالما هناك شبان قادرون على فعل ذلك وان في خلفية العملية تلك قصة عاطفية وحياة بائسة.!
كان التعصب النفسي العقائدي، قبل قيامة داعش واخوات وشبيهات داعش عند الطوائف الاسلامية والمسيحية ، التعصب والتطرف والكراهية حالة مرضيةنفسية معدية ،طارئة، تستدعي العلاج النفسي بل العزل، اكان التعصب دينيّ ام كان التعصب تعصبا عقائديا وطنيا ام قوميا ام ماركسياً، كل من يؤمن بافكار ثابته كحقائق مطلقة غير قابلة للنقاش وللتطوّر وفق الزمن والمكان والشروط الموضوعية والذاتية المرافقة مع جنوح لتصفية الآخر المختلف بالتوجه الفكري ،مريض نفسيّ ذهاني حتى اشعار آخر.
وإنا لله وانا اليه لراجعون.
بارانويا فردية و بارانويا جماعية خطيرة و مُعدية.
نحن ضحايا وباء التعصب النفسي، نحن اعداء أنفسنا، بداخلنا لغم لا ينفجر الا فينا.
قتلتنا الردة قتلتنا الردة
ان الواحد منا يحمل في الداخل ضدّه*(مظفر النواب)