توطئة
يبدو أن التنافس الروسي – التركي على منطقة خفض التصعيد الرابعة في محافظة إدلب ومحيطها المحرر، يتجه نحو استمرار التصعيد في ظل انكشاف النوايا الروسية في السباق للظفر بمكاسب الحرب السورية، إثر الدفع العسكري بميليشيات “الفيلق الخامس ولواء القدس وميليشيا الغيث” المدعومة روسياً، للتوغل العسكري في أرياف حماة وإدلب واللاذقية، التي تنتشر فيها فصائل الثورة السورية ضاربة عرض الحائط بمسار “آستانا” وباتفاق “سوتشي” ووضع حدّ لما يثار سابقاً من تفاهمات سرية أبرمتها روسيا مع تركيا، فيما يتعلق بهذه المنطقة الحيوية تحديداً، إذ رافق الهجوم الروسي غير المسبوق براً وجوّاً تفسير وحيد يؤكد وقوف روسيا وراء ذلك، على نمط ما فعلته بمناطق خفض التصعيد الأخرى في حلب والغوطة الشرقية وجنوب سوريا وفق سياق استراتيجي درجت عليه، واستثمرته في قضم المناطق المذكورة التي أخضعتها لسياسة خفض التصعيد بالتفاهم مع القوى الإقليمية الفاعلة في الملف السوري، وما اعترى ذلك من تحولات سياسية دولية مستغلة السعار الفصائلي إثر الاقتتال البيني الدامي للتفرد بالسلطة والنفوذ في المناطق المحررة.
ثمًة عوامل مهمة أيضاً دفعت روسيا إلى الهجوم على إدلب تتعلق باستراتيجتها الثابتة خلال السنوات الثلاث الماضية، والتي تشمل قصقصة أجنحة شركائها في “آستانا” بعدما بدأت بإضعاف الميليشيات الإيرانية وتفكيك أذرعها السورية، وباتت قاب قوسين من الصدام العسكري مع بقاياها في سوريا بعد موافقتها على لقاء القدس الثلاثي الذي يتصدر جدول أعماله إخراج إيران من سوريا، واستكمالاّ لاستراتيجتها في الهيمنة على سوريا، التفتت للإطاحة الساحقة الخاطفة بالشريك التركي عبر قضم إدلب وما حولها دون مراجعة للتبدلات السياسية في المنطقة.
اقرأ أيضاً: أزمة الطائرة الأميركية تابع: البنتاغون ينشر صوراً لمسارها.. وهذا ما كشفه
إزاء ذلك كله، لم يكتف الطرف التركي بتصعيد نبرة مسؤوليه ضد روسيا فحسب؛ بل اتجه لتزويد المعارضة بأسلحة ردع ثقيلة وفعالة والسماح لفصائل درع الفرات الالتحاق بالجبهات المشتعلة في ريفي حماة وإدلب، علاوة على ذلك فإن سعي فصائل الثورة في إدلب بمختلف تياراتها إلى ترميم علاقاتها البينية، واستعدادها للقتال والصمود بعد فقدانها أية خيارات أخرى، قدمت خططا تكتيكية أبهرت نتائجها المراقبين، بكسر القوس الدفاعي الاستراتيجي الذي أنشأه الروس، وتوسيع دائرة هجومها بالالتفاف على ميليشيا “النمر” من محور الجبين وتل ملح، وتهديد المواقع العسكرية الروسية الاستراتيجية في عمق القرى الموالية بعد أن قطعت الطريق الاستراتيجي الواصل بين محردة والسقيلبية، وبالانتقال إلى محور “كبانة” في ريف اللاذقية؛ نرى فشل ميليشيا “الغيث” بقيادة العميد غياث دلة التابعة لـ “الفرقة الرابعة” التي يقودها ماهر الأسد في التقدم إلى هضاب “الكبانة” في جبل الأكراد، رغم الكثافة النيرانية لسلاح الجو الروسي، لتسجل روسيا فشلاً ذريعاً في تحقيق أهدافها المرحلية بإبعاد خطر فصائل الثورة التي تهدد قاعدة حميميم العسكرية الروسية ومناطق نفوذها في ريف حماة الغربي.
ما من شك في أن التطورات التي حدثت لمسرح العمليات العسكرية في المعارك الدائرة بريفي حماة واللاذقية وما رافقها من تحولات سياسية، فرضت على الروس إعادة النظر في إستراتيجيتها عقب الخسائر الفادحة التي تعرضت لها ميليشيا “النخبة” في قوات ما يسمى “النمر والغيث”، فأظهرت حجمها الحقيقي وأحدثت أثرًا بالغًا في قدرات الميليشيات وإمكانياتها، ما استلزم من الروس الاتجاه إلى تفعيل خطوط المناورات السياسية عبر دعوة تركيا إلى التفاوض والمساومات، مما يشي بتغيير المعادلات الاستراتيجية والعودة إلى طاولة المفاوضات لرسم ملامح المرحلة المقبلة.
عوامل إخفاق الاستراتيجية الروسية في المعارك الدائرة
يمكن رد إخفاق روسيا في معارك أرياف حماة وإدلب واللاذقية إلى وجود عدد كبير من العوامل المتصلة ببعضها؛ كانت كفيلة بهزيمة الميليشيات الروسية، وهذه حقيقة لا تدخل في باب الأمنيات ولا المبالغة في الحديث عنها، كما لا تندرج تحت عناوين التخيّل وإنما تتجسد على أرض الواقع من خلال جملة معطيات يمكن تلخيصها بالتالي:
أولاً صمود فصائل الثورة: من خلال استقراء مشهد المواجهة بين فصائل الثورة والميليشيات المدعومة روسياً والمسنودة بالطيران، فإن الهزيمة التي منيت بها الميليشيات الروسية مردها إلى: تنسيق وتعاون فصائل الثورة المسلحة فيما بينها لزيادة رصيدها، محققة نتائج كبيرة يمكن رصدها من خلال امتلاك الفصائل المبادرة والمبادأة، وما تتمتع به من مرونة في العمل والتحرك.
-تحول فصائل الثورة من وضعية الدفاع إلى الهجوم وتطويره، وما يتصل بذلك من حماس الفصائل في صد الهجوم الروسي.
-كسر الفصائل خطوط دفاع القوات الخاصة الروسية “سبستناز” المصنفة ثانياً عالمياً، في تل ملح والجبين والضهرة والاتجاه إلى محاور جديدة في عمق القرى الموالية.
-قطع طريق الإمداد السريع الرابط بين السقيلبية ومحردة، ومن ثم إجبار ميليشيات الروس على نقل القتلى والجرحى باتجاه مصياف، وسلوك طرق فرعية للوصول إلى منطقة السقيلبية.
-تصعيد الفصائل وتيرة الهجوم باتجاه مناطق جديدة تحت مسمى معركة “الفتح المبين”، وفرض طوق عسكري على قرية الجلمة والاشتباك مع الحامية الروسية في كرناز، فيما كثفت نيرانها باتجاه الشيخ حديد بهدف السيطرة على الحماميات ومتابعة التقدم باتجاه كفر نبوذة.
-التحاق فصائل مهمة من “درع الفرات” بالمعركة، أدى إلى اتساع دوائرها يمينا وشمالا، ما يعني دخول مناطق أخرى ضمن دوائر المعركة، والاقتراب من مناطق الحاضنة الروسية حيث توجد أكبر التجمعات العسكرية في بريديج آخر خطوط الدفاع عن القرى المؤيدة في ريف حماة الغربي، ما اضطر الروس لاستقدام أعداد كبيرة من التعزيزات بعد مقتل ما يقارب 600عنصر وجرح 2000 منذ بداية المعركة قبل 45 يوماً، وإجبار الميليشيات الروسية على إبعاد قواعدها العسكرية من محور كرناز والشيخ حديد.
-فشل سلاح الطيران الروسي وذاك التابع للأسد بكافة أنواعه في تغيير مسار المعركة رغم النيران الهائلة التي استهدفت طرق إمداد الفصائل، فاتجهت للانتقام من المدنيين.
-إدخال الفصائل الطائرات الصغيرة دون طيار في منظومة تسليحها، لتمثل أداة رئيسة من أدوات استراتيجيتها العسكرية في المعركة الدائرة لأغراض الاستطلاع والمراقبة والمسح والقصف، وقد طالت هجمات هذه الطائرات مطار جب رملة لحوامات البراميل المتفجرة ومطار حماة العسكري.
-إنهاك نقاط الاستناد التي تعتمد عليها دفاعات الروس في المناطق التي استولت عليها في المعارك الجارية، من خلال التنكيل بها على طول محور تقدم الروس من كفر نبوذة إلى الحويز، حيث يتم يوميّاً في القصابية والكركات حرق للدبابات الروسية ومدافعها الثقيلة.
-الصمود الأسطوري للفصائل المرابطة على هضبة “كبانة” والهجمات الارتدادية التي تشنها تباعاً ضد ميليشيا “الغيث”، ما أدى إلى اضطراب تشكيلات العدو وإجبارها على التقهقر واختلال توزيعها وتنظيمها بعد تكبيدها خسائر فادحة في الأرواح والعتاد.
الملاحظ على فصائل الثورة، خوض معارك كبيرة والتحضير لاقتحام مناطق جديدة بالاعتماد على استراتيجية عسكرية متطورة للتوغل في عمق تجمعات الروس العسكرية على محور الطريق الواصل بين محردة والسقيلبية، والامتداد باتجاه الجنوب الغربي نحو القرى الموالية حيث تنتشر النقاط العسكرية للروس وتلك التابعة لنظام الأسد، وفي مقدمتها مطار جب رملة المخصص لطائرات البراميل المتفجرة.
ثانياً: دعم فصائل الثورة وإعادة التوازنات
لا تزال القيادات العليا في موسكو وأنقرة تتعامل بشيء من الحرص والمخاتلة للحفاظ على اتفاق “سوتشي”، ولكن حدّة المعارك الجارية تكشف عمق هوّة الخلاف الحاصل بينهما، وهو ما يجسده عمليا التصعيد العسكري في شمال غربي سورية بعد فشل كافة الجهود التركية المكثفة مع الجانب الروسي خلال المفاوضات، لفرض وقف إطلاق النار والعودة إلى ما قبل كفر نبوذة، مما حدا بهم السماح لفصائل درع الفرات بالتوجه إلى ميادين القتال المشتعلة وكذلك مدّ الفصائل بأسلحة نوعية في المعركة، منها مضادات متطورة للدروع، وبعض المضادات الجوية للحد من تفوق طائرات النظام، وهذا مكّن الفصائل من إحراز تقدم على الأرض، و تطوير التكتيك العسكري وفق استراتيجية الكمائن والإغارة للتنكيل بالروس واستنزاف قدراتهم العسكرية، وكل هذا يتضمن رسائل واضحة عن الحزم التركي في شمال غربي سورية، وإجبار الروس على العودة إلى ما قبل الهجوم الجاري سواء عن طريق المفاوضات أو عن طريق الحرب.
واتسعت فجوة الخلاف بين الطرفين التركي والروسي بعد إشارة المبعوث الأميركي الخاص “جيفري” إلى وقف اطلاق النار في إدلب كـ “بداية” للتفاهمات الجديدة مع موسكو، وكأنها تدعم الدور التركي في إدلب خصوصاً أن المعارك الأخيرة عبّرت عن استياء روسي مزدوج: أولاً من تقدّم التنسيق الأميركي – التركي في شأن “منطقة آمنة” في الشمال الشرقي، وثانياً من التلكؤ التركي في تنفيذ اتفاق “سوتشي” كما تدعي موسكو، وما تكشفه المعارك الدائرة في منطقة خفض التصعيد الرابعة منذ أكثر من شهر ونصف؛ يشير إلى عزم أنقرة إفشال التصعيد الروسي الذي يُعد من وجهة النظر التركية تهديدا لمصالحها الجيوسياسية والجيواستراتيجية في منطقة خفض التصعيد الرابعة، بدليل أن أسلحة نوعية ظهرت في التصدّي لعدوان الميليشيات الروسية ومنها صواريخ “تاو” وطائرات مسيّرة ومدفعية بعيدة المدى يستخدمها الجيش التركي بموافقة أميركية، وكذلك السماح لفصائل درع الفرات بالمشاركة في صدّ العدوان، هذا المعطى يجعل العلاقة الروسية – التركية على حافة الهاوية رغم محافظة الطرفين على خطاب دبلوماسي ناعم.
ثالثاّ: الصراع الإيراني – الروسي
ترتكز استراتيجية موسكو في الآونة الحالية على محدد رئيسي يقوم على تشكيل ميليشيات عسكرية لتحقيق أهداف تدخلها في سوريا، ويتمثل الإطار العام لهذه الاستراتيجية في إضعاف الميليشيات الإيرانية في المناطق الخاضعة لنفوذ الأسد، وخلق انطباع سلبي داخليًّا وخارجيًّا إزاء قدرتها على تحقيق أي تقدم على الأرض دون الغطاء الجوي الروسي، ومن ثم راحت موسكو تعمل على إزاحة النفوذ الإيراني في المنطقة الوسطى اعتمادا على استراتيجية مرحلية وفق سياسة الهيمنة دون وقوع تصادم عسكري مباشر، ولكن ما أدركته موسكو في المعارك الجارية أن إيران لا تزال هي القوة العسكرية الأولى المهيمنة على المناطق الواقعة تحت نفوذ نظام الأسد، لذلك نأت إيران بميليشياتها عن المعارك الدائرة في أرياف حماة واللاذقية وادلب، وبالأخص بعد قبول روسيا المشاركة في “اجتماع القدس” الذي يؤسس لمرحلة جديدة في مسار الصراع على سورية والمنطقة، ويظهر ذلك على أجلى صورة في التنافس الجاري بين روسيا وإيران، حيث امتنعت الأخيرة عن فتح محاور قتال جديدة للضغط على فصائل المعارضة، فالتطورات الإقليمية والدولية على حواف الخليج العربي لا تسمح لها بالقتال في سوريا، وكذلك لا تريد معاداة تركيا كونها أحد البوابات الرئيسية للتخفيف من حدة العقوبات الأمريكية التي ترفضها أنقرة، فضلاً عن هواجسها من الخطر الروسي في حال التوافق في اجتماع القدس على إخراج ميليشياتها من سوريا، من هنا تأمل إيران إضعاف الروس والنيل من هيبتهم في معارك ريف حماة.
خاتمة
تمكنت فصائل الثورة في المعارك الحالية من التعامل مع التحولات الطارئة بقدر كبير من المرونة والانتقال من استراتيجية إلى أخرى، وأحيانا الجمع بين عدد من الاستراتيجيات لمواجهة روسيا التي تتفوق في القوى الجوية والوسائل ومختلف الإمكانيات، واستغلت الفصائل الكثير من ثغرات الخطط الروسية، مما مكنها من استنزاف ميليشياتها وإنهاك قواها الجوية، والمبادأة بالتوغل باتجاه محاور جديدة، للحفاظ على مكتسباتها العسكرية الأخيرة، ونقل المعارك إلى حاضنة النظام، ومن ثم إجبار روسيا على إعادة قراءة المشهد السوري في إطار حسابات استراتيجية جديدة بعدما أضعف صمود الفصائل من خياراتها، وبالتالي تغيير مساراتها الاستراتيجية في التعامل مع المعارضة السورية.