لا يمكن لثورة شعبية في العالم الحديث أن تنجح إذا لم يسمح لها أن تنجح. نحن نعيش داخل عالم لا يبيح التحولات غير المحسوبة، عالم يتحدد مساره ومصيره داخل تقاطعات، يتواطأ داخلها رعاة الحكم وأسواق المال ولوبيات النفط والصناعة العسكرية. الأمر ليس جديدا. هو من أبجديات التوازنات الدولية وألف باء صراع الأمم.
نجحت الثورة في إيران وتحولت إلى نظام أقام جمهورية إسلامية. تفجرت تلك الثورة في لحظة كان مطلوبا، في الداخل كما في الخارج، أن يتغير الوضع في إيران، فيرحل شاه ويتربع آية الله على قمة الهرم الحاكم.
نجح روح الله الخميني عام 1979 بالإطاحة بحكم لم يسمح لمحمد مصدق الإطاحة به في خمسينات القرن الماضي. وإذا ما كان لظروف الحرب الباردة دور أساسي في إبراز وجه وتغييب آخر، فإن لظروف المنظومة الدولية الراهنة ما يفسر تغييب صدام حسين ومعمر القذافي والإطاحة بحسني مبارك وزين العابدين بن علي وإبقاء بشار الأسد داخل قصر المهاجرين.
اقرا ايضا: لماذا أسقط حزب الله «حكومة العهد»؟
وعلى هذا فقط يمكن قراءة المشهد السوري منذ أن خرجت أولى مظاهرات الاعتراض في درعا في مارس 2011. يعرف المدافعون عن نظام دمشق أن مناعة النظام السوري الذاتية هي أضعف مما كانت تتمتع به أنظمة أخرى تم تدميرها بقرار بسيط خرج من غرف القرار الكبرى.
لا يملك نظام الأسد القوة التي كان يملكها نظام صدام حسين في العراق أو نظام سلوبودان ميلوشيفيتش في يوغسلافيا أو نظام طالبان في أفغانستان. كادت المظاهرات العفوية التي تحولت إلى عواصف مسلحة تطيح بنظام حكم سوريا، منذ انقلاب البعثيين عام 1963 ومنذ حكم آل الأسد وفق “الحركة التصحيحية” عام 1970. كادت نعم، لكن بدا أيضا أن عواصم القرار الكبرى، شرقا وغربا، تواطأت جميعها لحماية نظام دمشق والتقاطع في ما بينها درءا لانهياره.
يكذب الرئيس الأميركي دونالد ترامب. لم تعمل بلاده أبدا على قلب النظام في دمشق. يكرر ترامب، في معرض الدفاع عن خياراته، القول إن واشنطن استثمرت الملايين في سوريا لضرب نظام الأسد لكنها فشلت.
لا يستقيم هذا الادّعاء مع قدرات الولايات المتحدة على إسقاط الأنظمة المسماة معادية ابتداء من ذلك السوفييتي مرورا بأنظمة أخرى تساقطت مذاك الواحدة تلو الأخرى كلما أراد الحاكم في البيت الأبيض ذلك.
سقطت بلغراد حين أراد بيل كلينتون ذلك، وسقطت بغداد وكابل حين قرر جورج بوش جونيور ذلك، ولم تسقط دمشق لأن باراك أوباما لم يقرر ذلك. نعم الأمر للأسف بهذه الفظاعة وهذه البساطة. وحين سحبت واشنطن رعايتها عن رئاسة السلطة الفلسطينية وفشل كولن باول في مهمته الشهيرة في ربيع 2002، استبيحت “المقاطعة” في رام الله وغيّب زعيمها ياسر عرفات لاحقا. ولئن تجري في واشنطن مراجعة حول ما “اقترفته” هنا وهناك، فإن الجدل يدور حول صواب إسقاط أنظمة لا حول لها ولا قدرة على إسقاطها.
تولت الولايات المتحدة في عهد رئيسها باراك أوباما قيادة الفعل في سوريا. قاطعت واشنطن نظام دمشق دبلوماسيا وسحبت آخر سفير لها، روبرت فورد، من دمشق عام 2012، واستبقته مبعوثا لها إلى سوريا حتى استقالته عام 2014. كان للرجل موقف غاضب من إدارة بلاده بسبب ما لا يفهم إلا تواطؤا لحماية نظام الأسد، ولا الانقلاب عليه.
قادت واشنطن حملة الفعل المعارض لنظام دمشق وعملت الدول العربية المناهضة لنظام الأسد تحت السقف الأميركي والتزمت بقواعده. احترم الجميع قواعد الحرب ضد النظام السوري فمنعوا عن المعارضة أسلحة تدميرية تخترق تلك القواعد وأصولها.
وحين قرر أوباما، إثر لقاء سريع جمعه بالزعيم الروسي فلاديمير بوتين على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2015، تسليم روسيا ملف سوريا، خضع الجميع للمعطى الجديد وسلموا بالقواعد التي تحمي الورشة الروسية من نيران أي ورش سابقة.
فهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الأمر متأخرا، أسقط طائرة روسية فأسقطته موسكو وواشنطن داخل أجندة بوتين-أوباما السورية. يعيد ترامب تصويب عقارب إدارته وفق توقيت إدارة سلفه. لا شك أن الرجل لا يقر بذلك وهو الذي يكره أي ظل لأوباما في الولايات المتحدة. لكن هذه هي حقيقة قراره سحب القوات الأميركية في سوريا والتمسك بها وربما رفع أعدادها في العراق.
لم تمثل سوريا يوما أيّ أهمية استراتيجية للولايات المتحدة. ما كان يهمها في ذلك البلد، هو أمن إسرائيل، وليس مستقبل الأكراد أو طموحات المعارضة هناك. لا خطر على أمن إسرائيل أيا كان شكل النظام في سوريا، ناهيك عن أن موسكو تسهر على أمن الدولة العبرية ولو اعترى أمر ذلك سوء فهم عابر في الأشهر الأخيرة.
اتخذ العرب مواقف من نظام الأسد على خلفية خرائط دولية أوحت بذلك. وسيتخذ العرب مواقف جديدة للتعامل مع نظام دمشق وفق خرائط جديدة استحدثت واستجدت داخل المشهد الدولي العام. وكما التزم العرب بالسقوف التي تفرضها إرادة الدول الكبرى والتفاهمات في ما بينها، فإنهم سيقاربون أمر دمشق وفق ما هو مطلوب في المستقبل من دمشق.
لم يسمح العالم للثورة السورية أن تنال مرادها، وهو لم يكن أن يسمح لها أن تحقق منالها حتى لو كانت ثورة طوباوية يقودها أفلاطونيون يزحفون لبناء “الدولة الفاضلة”. ذهب روبرت فورد الأميركي مع نظيريه سفيري فرنسا وبريطانيا لمباركة حراك المتظاهرين في حمص في يوليو عام 2011. صدّق المتظاهرون أن العالم آمن بنبل حراكهم، قبل أن تتراجع واشنطن وباريس ولندن عن رعاية ذلك “الربيع″ وتجتمع على عدم تعريض نظام دمشق لخطر الغياب.
ساهم نظام دمشق وبغداد في شيطنة الثورة ومصادرتها لصالح رؤوس أُفرج عنها من سجون بشار الأسد ونوري المالكي. تصادمت هنا أجندات الرياض والدوحة وأنقرة على نحو سوريالي ضد أجندات دمشق وطهران داخل نقطة، تم إنضاجها، بحيث بات بقاء الأسد ضرورة من ضرورات “السياسة الواقعية” التي ثبّتت الخميني يوما في إيران وأطاحت بغيره في دول أخرى.
وفق هذه القواعد سيعاد بناء نظام دمشق. تحتاج موسكو إلى موقف عربي صارم من مسألة الوجود الإيراني في سوريا. يستنتج نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، أنه لن يكون لدى الإيرانيين “سبب للبقاء هناك في حال إعادة السيادة السورية ووحدة أراضي البلاد”.
وتحتاج موسكو وواشنطن والاتحاد الأوروبي، إلى موقف تجتمع عليه المعارضة السورية، لاستمرار عملية سياسية، تمر من خلال لجنة دستورية، على الطريق نحو ترميم نظام متصدّع، يمثل ما انتهى إليه الأمر الواقع العسكري، وما سينتهي إليه توافق القوى الكبرى حول سوريا.
لن يكون مهمّا ما يريده نظام دمشق وما يطمح إليه المعارضون. بكلمة أخرى لن يقف العالم عند ما يريده السوريون. يُرسم مصير سوريا بلهجات غير سورية. يغيب العامل السوري في عملية أستانة وسيكون صوريا مصطنعا إذا ما أعيد إنعاش عملية جنيف. على هذا يعود العرب ليكونوا جزءا من عزف غير سوري ينظم نشيد سوريا المقبل.