في سبعينات وثمنينات القرن الماضي لم تكن أية جهة سياسية أو حزبية تدعو لمجالس عاشوراء، فقد كان أهالي القرى والبلدات في الجنوب يتولون دعوة المقرئين الحسينيين لقراءة المجالس على مدى العشرة أيام الأولى من شهر محرم، يتجمعون في الحسينيات المتواضعة الحجم والمظهر، ولم تكن المراسم تمتدّ أكثر من ذلك، اذ أن مراسم الأيام الفاطمية التي استوردت حديثا والتي تمتد لعشرة أيام لاحقة لم تكن معروفة حينها قط.
اقرأ أيضاً: أهل السنة : نحن لا عاشوراء لنا … وهذا ما نقوله عن يزيد !
وكانت المناسبة العاشورائية مفتوحة يتنافس فيها الشعراء والأدباء في القاء الخطب والقصائد، وكان المعلمون واساتذة المدارس وليس المسؤولون الحزبيون كما هو الحال اليوم يتولون ادارة الحفل والخطابة والتعريف بمعتلي المنابر، كما كان رجال الدين الذين يعدون على الأصابع ينشطون وينتقلون من قرية الى قرية للوعظ والتذكير بمبادىء الامام الحسين الذي جدّد الاسلام بثورته عندما ثار ضدّ الظلم، فشرّع الخروج على الحاكم الظالم، في حين ان المنبر الحسيني أصبح اليوم منصة للدعاية السياسية أو الدينية، كما أصبح المنبر مغلقا وحكرا على ممثلي الأحزاب، حتى ان قارىء العزاء يفترض به ان يكون منتميا الى الجهة الحزبية صاحبة الدعوة.
اصبحت المجالس اليوم وظيفتها قبل كل شيء استنهاض العصبية الطائفية وتوظيفها في خدمة الجهة الحزبية الداعية للمجلس، عن طريق اليافطات في الشوارع والساحات التي تسقط حدث مظلومية الحسين على الواقع السياسي الحالي، وتسقط معركة كربلاء على معارك سوريا والعراق واليمن،ما حوّل المناسبة من حالة اجتماعية دينية الى حالة تعبوية سياسية ذات طابع أيديولوجي.
مناصرو حركة أمل لهم مجالسهم التي يحضرونها مع جمهورهم، وكذلك مناصرو حزب الله، اذ يقوم قارىء مجلسهم الحسيني بالدعاء لقائدهم مرشد الثورة الاسلامية في ايران السيد علي خامنئي بطول العمر، كما يدعو لمقاتليهم بالنصر في معارك سوريا واليمن والعراق، وكثير ما يتحوّل التنافس الأخوي بين الحركة والحزب على استقطاب الجمهور الى عراك تكون اول ضحاياه اليافطات والصور اضافة لسقوط عدد من الجرحى كما حدث في بلدة البيسارية الجنوبية قبل أيام.
أما المسيرات الحسينية فهي كانت شبه معدومة وحكرا على مدينة النبطية في اليوم العاشر من محرّم فقط، حيث اعتاد امامها الحالي الشيخ عبد الحسين صادق ومن قبله أجداده ان يرعوا تلك المسيرات التي يتخللها “التطبير” أي جرح الرؤوس واسالة الدماء، وهو أيضا كان وما زال طقسا حسينيا تراثيا رغم ما يثيره من جدل، ويشاهد الحضور في نهاية المسير العاشورائية مسرحية من وحي مصرع الامام الحسين واهل بيته تحاكي عقول المؤمنين القرويين الذين انحدروا الى النبطية بعفوية ليشهدوا المصرع ويسمعوه مرة واحدة كل عام.
اقرأ أيضاً: تطييف عاشوراء تزوير لها
في حين ان مناطق عدة منها بيروت وضاحيتها الجنوبية وبعلبك وغيرها اصبحت في اليوم العاشر تشهد مسيرات حزبية منظمة ومصطنعة يتخللها استعراض لوحدات شبه عسكرية تهتف بالشعارات السياسية وبالولاء للقائد، تنتهي بخطبة سياسية دينية تحاكي أيديولوجية الحزب وعقيدته.
بالأمس كانت عاشوراء يقيمها أهالي وابناء القرى والبلدات الشيعية بأنفسهم، وكانت منبثقة من الايمان الفطري للناس الباذلين دموعهم سخية حزنا على استشهاد ابن بنت رسول الله، أما اليوم فعاشوراء الحزبية التعبوية ذات الشعارات السياسية الموجهة اصبحت مهمتها ان تخلق “الشيعي” المحارب العابر للوطن، الشيعي ذا البعد الواحد.