الجزء الأول من نص حول الظلم والعدالة. يُنشر الجزء الثاني بعد أسبوع.
إلى سميرة، عيني الداخلية
«كيف يتأتى لشعب وقع ضحية قسوة لا توصف أن يصبح هو نفسه جلاداً لشعب آخر؟»، يتساءل آفي شلايم، المؤرخ الإسرائيلي، في كتابه: إسرائيل وفلسطين، إعادة تقييم، ومراجعة، ودحض وتفنيد (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2013). شلايم هو ممن يُعرَفون في إسرائيل بـ«المؤرخين الجدد» الذين أعادوا النظر في تاريخ ظهور إسرائيل، وساءلوا الوعي الذاتي الإسرائيلي والإيديولوجية الصهيونية. والشعبُ الذي كان «ضحية قسوة لا توصف» هو اليهود، الذين صاروا جلّادين للشعب الفلسطيني.
تحاول هذه المقالة اقتراح عناصر نظرية تسهم في الإجابة على سؤال شلايم، وتعمل على تقصّي جذور الشر السياسي في بنى المجتمع والسياسة والنفس البشرية. وهي من وجه آخر تستأنف تناول سرديات المظلومية التي سبق لي تناولها (الظالمون العادلون: من سرديات المظلومية إلى مقاومة الظلم، أيلول 2015). لكني أعمل هنا على إدراج السرديات في بنى مظلومية تشمل هياكل سياسية ومركبات ثقافية وتكوينات نفسية، فضلاً عن الخطابات حول المظلومية. تحاول المقالة إلقاء ضوء على ما يمكن أن تكون آلية أساسية في تسهيل إيقاع الظلم على يد مظلومين، وهي الانحباس في النفس وتوقف الأفعال الانعكاسية (مساءلة الذات، نقد الذات، التهكم من الذات…)، وهو ما يفضي إلى ضمور الضمير أو النفس المُحاسِبة. وتميّزُ هذه المناقشة أيضاً بين صورتين للنفس، النفس المغلقة أو المصمتة، والنفس المتعددة أو الفسيحة، وتقول شيئاً عن العلاقة بين نظام النفس والنظام السياسي في بيئاتنا الاجتماعية والسياسية والفكرية. نناقش أيضاً فكرة الأحقية كتركيب من المظلومية والتفوق، يتأسس عليه تكوين إبادي، يجنح حين تكون الظروف مواتية إلى التوسع في قتل العدو النوعي، «الظالم». ونبني على المناقشة حول النفس والضمير نظرةً على مفهوم الكرامة، ومساءلةً للإسلامية المعاصرة عن موقع الكرامة الإنسانية فيها، وتختم المقالة باقتراحات حول تحولات واجبة في تفكيرنا من أجل حياة أكثر عدالة.
إطار الإحالة الواقعي للمقالة هو، بطبيعة الحال، سورية في الزمن الأسدي، وبخاصة بعد الثورة عام 2011. أزمنة التجارب القصوى كهذه التي نعيشها منذ ست سنوات ونيف أنسب من غيرها للنظر في تكوينات الإنساني النفسية والاجتماعية والسياسية والفكرية. وهي مناسبة ومحفز لثورة في تفكيرنا وعلى تفكيرنا المألوف، أياً يكن مصير الثورة في الواقع وعليه.
اقرأ أيضاً: المؤتمر الفكري الثاني لمؤسسات فضل الله: حول أنسنة الدين ودولة الانسان
العنف الإذلالي
ليس العنف المهول هو ما ميّزَ سلوك الدولة الأسدية منذ مطلع الثورة، بل خصائص مترابطة لهذا العنف. أولها أنه عنفٌ عنيف إن جاز التعبير، مُمَارسٌ بعنف وخشونة، أهوج وعشوائي وفائض، متواضع تنظيمياً وتكنولوجياً أيضاً، ومقتضٍ للجهد العضلي والتورط الشخصي المباشر من قبل ممارسيه؛ وثانيتها أنه عنفٌ تمييزيٌ جمعي، يستهدف حياً أو بلدةً أو منطقة، ولا يقتصر على أفراد بعينهم أو مجموعات مكونة من أفراد يمكن تعريفهم بأفعال سياسية أو عسكرية تميزهم؛ وثالثة الخصائص الطابعُ الإذلالي المقترن بالكراهية لمن يقع عليهم العنف، مع ميل إلى تعريفهم تعريفاً جمعياً بهوية موروثة قديمة، ومع تسهيل مشاركة من ليس لهم صفة عامة في ممارسة العنف؛ ورابعتها أنه عنفٌ متفننٌ وغير مقنن، لا ينضبط بقاعدة عامة معلومة، يمتنع التنبؤ بمقداره ويحوز ممارسوه حصانة كلية، وهو ما يضفي عليه صفة ترويعية أو بالضبط إرهابية؛ والخاصية الخامسة أن مسارح هذه العنف كثيرة، يمكن أن تكون الشارع أو ساحة البلدة أو وسيلة النقل العام، أو الجامعة، أو حتى المستشفى، وأن سحب العنف من الحياة اليومية الذي ميز الدولة الحديثة، انعكس في سورية في جيلي الحكم الأسدي، حيث مازج العنفُ الحياةَ اليومية على نطاق واسع. هذا يعزز الطابع الإذلالي للعنف، ويوسع من تأثيره الاجتماعي المخرّب.
يتقابل نمط العنف هذا مع عنف الدولة-الأمة الحديثة الذي يُفترض أن يكون عقابياً، مجرداً، فردياً، لا ينال من التكامل الجسدي أو النفسي للأفراد، وتستأثر بممارسته جهات معلومة محددة في الدولة. عنف الدولة الأسدية، خلاف ذلك، أشد قسوة وتمييزاً، لا ينفصل عن حيثيات المعنّفين ومن يكونون وممن يكونون، وهو في هذا أشدُّ إذلالاً حتى من العنف الإسرائيلي حيال الفلسطينيين. العنف الإسرائيلي بدوره عنيف، مقترن بالكراهية، جمعي، وإذلالي، وإن كانت تكنولوجيا العنف الإسرائيلية المتطورة تتيح درجة أكبر من الانفصال عن المعنّفين المباشرين. إسرائيل تحظى بضرب من التسامح الغربي والدولي مع جرائمها بحق الفلسطينيين، يُسهِّل من أمره ما يتيحه تفوقها التكنولوجي من إظهار عنفها كعنف حربي عادي، غير مباشر وغير عنيف ما دام يمارس عن بعد. للتكنولوجيا دور مهم في حجب العنف من جهة ممارسه، فالطيار أو رامي الدبابة يقتل ويدمر عن بعد، لا تتشنج ملامحه وهو يقتل، ولا يرتفع الأدرينالين في دمه، وهو لا يرى ملامح المقتولين وأشلاءهم. وعموماً يجري تصور العنف الإسرائيلي بأنه عنف دولة، مبقرط (أُضفيَت صفة بيروقراطية على ممارسته)، دفاعي، وخاضع للسياسة. يثمر تآزر بقرطة العنف مع تقدمه التكنولوجي ومع خضوعه المفترض للسياسة عنفاً حَسَنَ التغليف، لا يكادُ يلفتُ النظر، وبالكاد يُشتكى من تجاوزه للحد. في واقع الأمر، العنف الإسرائيلي حيال الفلسطينيين هو عنفٌ استعماري، جمعي، إذلالي، لا يستبعد تماساً جسدياً على الحواجز وفي السجون، فوق أنه لا يحتكر ممارسته اختصاصيو عنفٍ معلومون. اعتداءات المستوطنين المسلحين تماثل استخدام الشبيحة من قبل الدولة الأسدية، واختراقهم جغرافياً، اليومي وطوال عقود، للمجال الفلسطيني، يتكفل بإدراج العنف في الحياة اليومية على نحو نعرفه جيداً في سورية. ويشارك ممارسو العنف الإسرائيليون، العامون والخاصون، نظراءهم الأسديين في الحصانة من العقاب مهما فعلوا. الواقع أن لإسرائيل ميزة في هذا الشأن، فقد حصل أن قُدِّم للقضاء قتلة إسرائيليون كانوا لا يعاقبون، أو يكون عقابهم محدوداً جداً بالمقارنة مع جرائمهم، وحصل أن دفع سياسيون أثماناً وقتية لجرائم حرب موصوفة ارتكبوها أو سهلوا ارتكابها (شارون، بعد مذابح صبرا وشاتيلا). لا شيء يداني ذلك بخصوص الأسديين.
العنف الأسدي أقل تجريداً وبيروقراطية وأكثر إذلالاً حتى من العنف الإسرائيلي، يميزه تماهٍ واسع بين الأمني والعسكري والسياسي، وإرادة إشراك جمهور أوسع في ممارسة العنف، وتعريض جمهور أوسع للعنف أيضاً. الدولة هنا لا تحتكر العنف لنفسها، بل ترغب في توسيع المشاركة الاجتماعية في ممارسته لمصلحتها، ولا تواجه بالعنف من يواجهونها به، بل تستهدف حياة المدنيين في المناطق الخارجة عن سيطرتها، بما في ذلك العاملون الصحيون والمرافق الصحية. أسلحة من نوع البراميل المتفجرة وغاز السارين والكلور، يمكن أن توصف بأنها أسلحة عدم تمييز شامل، فوق كونها أسلحة تدمير شامل (البراميل لا تعتبر كذلك من الوجهة التقنية، لكنها كذلك في الخبرة السورية، وأثرها التدميري على الأجساد البشرية والعمران يفوق أثر السلاح الكيماوي).
وخلال ما يقترب من نصف قرن تطور العنف الأسدي باتجاه مزيد من الهَوَج وتَرَاجُع الصفة البيروقراطية وتقدم الصفة الجمعية، وهذا مع تقدم الصفة المشخصة والأهلية للدولة وتراجع صفتها العامة. لا تكتفي الأسدية بممارسة التجويع الجمعي لمناطق كاملة (المعضّمية، داريا، مخيم اليرموك، مضايا، الغوطة الشرقية، حلب الشرقية قبل إعادة احتلالها…)، بل تُطوِّرُ فوق ذلك شعاراً يلخص الهدف السياسي من التجويع: الجوع أو الركوع! الركوع هو شكل إذلالي من الطاعة السياسية التي يعاقب الخروج عليها بالموت، جوعاً أو بالبراميل أو السارين أو تحت التعذيب. معتقلو الدولة الأسدية، خلافاً حتى للأسرى الفلسطينيين في سجون إسرائيل، قلما يُضرِبون عن الطعام لأنهم سيتعرضون للتعذيب إن فعلوا، وربما يُقتَلَون لتجاسرهم، وفي أحسن الأحوال يُترَكون للموت دون أن يعلم بهم أحد. وهذا خاصة في «السجون الباطنة» للدولة الأسدية، مثل تدمر أيام الأب وصيدنايا أيام الابن.
ويبدو أن الغرض من هذا العنف العنيف، الإذلالي، الجمعي، المتفنن، الفائض، التمييزي، المتعدد المسارح والمندلق في الحياة اليومية، انتقاميٌ من جهة، يصدر عن اعتبار تمرد المحكومين عدواناً على الحاكمين، وردعي استباقي من جهة ثانية، يُلقِّن المُعنَّفين المذلولين دروساً لا تُنسى، ويصنع ذاكرة مناسبة تستبقي هذا الهول في نفوسهم طويلاً، بحيث تُسحَق إرادتهم على المقاومة.
وبدءً من عام 2013، أخذ يظهر بين معنّفي الدولة الأسدية المذلولين ممارسون آخرون لعنف مهول، أهوج وإذلالي ومتفنن، استعراضي أيضاً، وممتزج بالكراهية. إسلاميون أولاً، أبرزهم داعش، وجبهة النصرة، وتشكيلات مقاتلة أخرى في حلب وإدلب حسب تقرير صدر قبل شهور عن أمنستي/منظمة العفو الدولية. كان الإسلاميون تعرضوا لأشدّ الوحشية على يد الدولة الأسدية. وما ستقوله هذ المقالة هو أنهم كانوا عنيفين وعدوانيين، ليس رغم أنهم مظلومون سابقون، بل –جزئياً على الأقل- لأنهم مظلومون سابقون. ولأنهم عملوا، ولديهم عدة خطابية تساعدهم على ذلك، على إضفاء طابع نسقي على مظلوميتهم، تجعلهم مجرد ضحايا لعدوان منبثق من صميم تكوين المعتدين.
ويمتزج في سجل قوات تنظيم الاتحاد الديموقراطي الكردية الإذلال بالكراهية أيضاً، وبعض أوجهه موثقة في تقرير سابق لأمنستي أيضاً، وهذا قبل مشهد استعراض كرنفالي لجثث مقاتلين محليين في أرياف حلب، وسط مدينة عفرين الكردية في نيسان 2016. وفي الحرب لانتزاع الرقة من داعش تتواتر معلومات عن معاملة تمييزية للسكان، الموضوعين تحت اتهام جمعي بالداعشية والمطالبين بإثبات أنهم ليسوا دواعش، فضلاً عن القصف العشوائي للمدينة، وقد أوقع مئات المدنيين خلال شهر حزيران الماضي وحده.
تعمل هذه المناقشة على إبراز الآلية التي تتيح إيقاع الظلم على الغير بدون تردد أو بقليل منه، أعني حضور المظلومية في تفكير وأفعال الأطراف الثلاثة (لن أتناول المظلومية اليهودية هنا، وإن كانت ستجري الإحالة عليها في السياق). تسهّل سرديات المظلومية التوسع في تعريف العدو، على نحو يسهّل بدوره ممارسة عنف هجومي ومضاد للمجتمع. الدولة الباطنة الأسدية، وهي ذات تكوين طائفي غالب، تستخدم كلمة إرهابيين، وقد قدّرهم بشار الأسد بالملايين، يندرج ضمنهم عشرات ألوف الإرهابيين و«حاضنة اجتماعية» (هذا تعبير بشار) تضم أُسَرَهم وجوارهم، وهو ما يفتح أوسع الأبواب أمام الإبادة؛ ويتكلم السلفيون الجهاديون على نُصيريين وعلمانيين وكفرة، ما يمحو الفارق بين المدنيين والمحاربين، وما يضع المجتمع كله موضع اتهام، فيفتح الباب للإبادة أيضاً؛ ويفضل مناصرو تنظيم الاتحاد الديموقراطي الكردي الكلام على دواعش أو على إرهابيين، وعلى اعتبار سكان شمال سورية العرب «بيئة حاضنة» لداعش، ما يلغي بدوره الفارق الجوهري بين المدنيين والعسكريين، ويُسوِّغ الاعتداء على المجتمع، ويفتح الباب للإبادة كذلك.
لم تكن ممارسات التوحش والإذلال التي رُصدت منذ بداية الثورة من طرف الأسديين، ومنذ عام 2013 من قبل السلفيين، ثم بعد 2015 من قبل تنظيم الاتحاد الديموقراطي الكردي، مما كان يساور أسوأ ظنون معظم السوريين الذي وجد كثيرون منهم، مع ذلك، في أنفسهم استعداداً للقيام بمثل هذه الممارسات أو تبريرها، والإمعان في العنف اللفظي بحق منتقديها. فإذا عرّفنا التوحش بأنه عنفٌ ممارس بعنف، إذلالي، كاره، موجّه ضد جماعات بشرية واسعة، دون ارتباط بتحديد قانوني أو سياسي للمسؤوليات، وجب التساؤل عن جذور التوحش، وعما يُحتمل أن يؤدي إليه.
الجواب المقترح هنا يحيل إلى دور المظلوميات في تسهيل إيقاع الظلم وإضعاف فرص مقاومته. ولأغراض هذه المقالة، أُعرّفُ «الظلم» بأنه العنف الإذلالي، أو أن هذا هو الشكل الأبرز للظلم الذي تُبنى عليه وتستثمر فيه سرديات المظلومية. هناك شكل آخر أقل ظهوراً لكنه عميق الأثر، وهو التمييز الجمعي المديد، الذي سيشار إليه في متن المقالة، وبشيء من التوسع في قسمٍ ثان منها.
سؤال المظلومية
أين كنتم حين كنا نُقمَع، نُهان، نُفقر، نُقتَل، نُعذَب، تُرتَكب بحقنا المجازر، إلخ؟ هذا السؤال الاستنكاري يمكن أن يكون رداً على إدانة محتملة لأفعال مُجادل فيها، أو انتهاكات صريحة يمارسها منسوبون إلى جماعات المظلومية بحق غيرهم. أعني بجماعات المظلومية الجماعات التي تُعرِّف نفسها بقدر كبير بسردية مظلوميةٍ تخصها، تتشكل حول ظلم حقيقي غالباً (تمييز، إذلال مباشر، إهانات رمزية…)، لكن السرديات تُضفي عليه طابعاً نسقياً، وتحوِّله إلى ركيزة لتمايز الجماعات وتَجَابُهِها. أين كنتم حين كنا نتعرض للمذابح، ونُباد بالملايين؟ قد يردّ صهيونيٌ على إدانة معاملة إسرائيل للفلسطينيين. أين كنتم حين كنا مُهمَّشين اجتماعياً، ومُبعَدين إلى جبال تسكنها الضباع، مُفقرين ومُحتقرين أيضاً، وكانت بناتنا تعملنَ خادمات في بيوت الأغنياء في المدن، وتتعرضَن للاستغلال الجنسي؟ قد يردّ ناشطٌ طائفيٌ علوي على إدانة أعمال الدولة الأسدية. أين كنتم حين جُرِّدَ عشرات الألوف منّا من الجنسية، ومُنعنا من تعلم لغتنا وتطوير ثقافتنا والاحتفال بعيدنا القومي، وحين انتفضنا عام 2004 وتُركنا وحدنا؟ قد يردّ ناشطٌ قوميٌ كردي على لوم ممارسات قوات تنظيم الاتحاد الديموقراطي. أين كنتم حين كنا نتعرض للتعذيب والقتل في سجن تدمر وصيدنايا، أو حين دُمِّرت حماة ونُهِبَت؟ قد يردّ ناشطٌ طائفيٌ سنيٌ على إدانة أفعال جبهة النصرة أو جيش الإسلام، أو حتى داعش.
تُقمَع الإدانة المحتملة في المهد بذلك السؤال الساخط الذي يتضمن أنكم، كلكم، ضدنا: إما شاركتم في ظلمنا، أو لم تعترضوا على ظالمينا الذين هم منكم ولم تتضامنوا معنا. والحُكْم، تالياً، هو أنه كلكم مثل بعضكم، فلا يحقّ لأيٍ منكم لومنا. بل ليس من حقكم طرح السؤال بخصوص ما يُحتمل أننا ارتكبنا، أو دَفعُنا إلى مراجعة ما نفعل.
وقد تستبطن أطراف ثالثة سرديات المظلومية الخاصة بهذه الجماعة أو تلك، فتشارك في توبيخ من يُسائل عن ممارسات لاحقة مُجادل فيها: كيف تجرؤ على مساءلتهم عن انتهاكات عارضة، يمارس مثلها الجميع؟ ألا ترى فظاعة ما وقع لهم؟ هذا شائع بخاصة على ألسنة «متضامنين» غربيين (مع اليهود، مع الفلسطينيين، مع المسلمين، مع الكرد…)، يحفزهم ما يثيره رفاه الحال من شعور بالذنب، فيتضامنون كي يتخففوا منه. وقلما يستوعب «التضامن» تفاصيل وملابسات وذاكرات وتواريخ الصراعات الفعلية.
بردّه المنفعل على إدانة محتملة، ما يقمعه سؤال المظلومية هو الخروج من النفس، والنظر إليها من خارج مثلما ننظر إلى غيرنا. القمع الفوري للمساءلة يمنع الأفعال الانعكاسية التي تقوم على الخروج من النفس، ومن جملتها مساءلة النفس ومحاسبة النفس ولوم النفس وضبط النفس ونقد النفس ومراجعة النفس، والتهكم على النفس، وتغيير النفس. الضمير، أو النفس المُحاسِبة، يتكون عبر هذه الأفعال، عبر الخروج من النفس والعودة إليها. إنه منظمة نفسية، إن حاكينا لغة التحليل النفسي، تتكون عبر تكرار الأفعال الانعكاسية المشار إليها. وهي أفعال تبدأ بالظهور منذ الطفولة، عبر استدخال توجيهات وتحذيرات الأبوين التي يعلم الطفل أنها لخيره. الضمير هو عين الأبوين الداخلية. أو بنظرة أعم هو عينٌ صديقةٌ في داخلنا، تُحبّنا وتُسائلنا، تلومنا لخيرنا. عينٌ نثق بها.
ومثلما ليس لدينا عضو اسمه العقل، ليس هناك عضو اسمه الضمير؛ العقل والضمير يتكونان عبر أفعالِ تَعَقُّلِ العالم من حولنا، وأفعالِ مراجعةِ النفس في داخلنا. هذه «الملكات» تتشكل عبر الأفعال، وليست هي ما يشكل الأفعال. وأفعالنا هذه غير مبرمجة سلفاً، وهذا ما يبدو أنه يميز الإنسان عن غيره من الكائنات الحية: أفعالنا تتشكل تاريخياً وبيئياً وثقافياً وتكنولوجياً، وتتحدد بقدر كبير ببنى اجتماعية تتكون وتتبدل تاريخياً، دون أن تكون محددة بيولوجياً سلفاً. للإنسان تاريخ لأن أفعاله غير مبرمجة سلفاً، أي لأنه ليس له «طبيعة» (أو ربما لأن هناك ما هو «غير طبيعي» في طبيعته). إذا توقفت أفعال التعقل والمراجعة لسببٍ ما، يَضمرُ العقل ويضمرُ الضمير. نخسر حينها الحرية، ونتزود بطبيعة ثابتة، «طبيعية»، ويمكن حينها التنبؤ بمستقبلنا. ليس للحيوانات تاريخ، بالمقابل، لأن أفعالها محددة طبيعياً، ومستقبلها معلوم.
هذا التصور عن الأفعال الانعكاسية يبني على نظرية حنه آرندت في كتاب Eichman in Jerusalem: A report on the Banality of Evil . الفيلسوفة المرموقة لا تردّ الشر إلى جوهر شرير متأصل عند أشخاص في صورة «نازع نَهِم وخطير إلى القتل»، أو «شخصية سادية ومنحرفة»، أو (في حالة أدولف إيخمان، المسؤول النازي) «كراهية مجنونة لليهود» أو «تعصب معاد للسامية». كان إيخمان مسؤولاً عن نقل اليهود في بلدان أوروبية متعددة وقعت تحت الاحتلال النازي في الحرب العالمية الثانية إلى معسكرات الاعتقال، حيث تعرض ما قد يصل إلى ستة ملايين منهم للإبادة. آرندت، وهي نفسها يهودية ألمانية لجأت بعد صعود النازيين إلى الحكم في بلدها إلى فرنسا ثم إلى الولايات المتحدة، تردُّ الشر الذي مارسه إيخمان إلى «عجزه الكلي عن النظر إلى أي شيء من وجهة نظر شخص آخر». الرجل الذي اختطفته الأجهزة الإسرائيلية من الأرجنتين حيث عاش متوارياً لنحو 15 عاماً بعد سقوط النازية، ثم حوكم في إسرائيل وأعدم، لم يكن يتكلم غير الكليشيهات، حسبما لاحظت آرندت. وهو نفسه يقول إن لغته هي «الأوفيشياليّة»، أي لغة التوجيهات والأوامر الحكومية، أو ما يمكن تسميتها «اللغة الرسمية الفصحى»: «كلما أطال المرء الإصغاء إليه، يتضح أكثر أن عجزه عن الكلام [الدال، الشخصي] وثيق الصلة بعجزه عن التفكير، وتحديداً التفكير من موقع شخص آخر»، تقول آرندت التي تعرّفُ التفكير بأنه حوار مع النفس، وهي لا تفكر فيه (التفكير) كفعل معرفي حصراً: إنه أكثر من ذلك فعل تمييز بين الخير والشر.
آخذُ من آرندت فكرة أن الشر متولد عن عدم القدرة عن وضع النفس في موضع الغير، لكن أحاول تقصي جذور هذا العجز في خطابات المظلومية والهياكل السياسية المبنية عليها، وكذلك في بنى النفس المتشكلة حول المظلومية. ليس الغرض طرح نظرية عامة في الشر السياسي، بل اقتراح آلية لإيقاع الشر، يبدو أنها تضيء كثيراً من ممارساته في منطقتنا، وربما في العالم.
***
ما يتسبب به العنف الإذلالي، والممارسات التمييزية بعامة، وما تعممه سرديات المظلومية، هو بالضبط وقف الأفعال الانعكاسية، تعطيل القدرة على الخروج من النفس والنظر إليها من خارجها ومساءلتها عن أفعالها، أي توقفُ أفعالِ مراجعةِ النفس. نعلم أن الواحد منا ينكمش على نفسه أو «يتجمع» عليها، مثل أحدب ابن الرومي، حين يتعرض لعدوان ممن لا قِبَل له بهم، محاولاً بذلك تقليل مساحة التعرض للأذى من جسده. ويمكن افتراض أن المرء يتصلب ويتجمع على نفسه، سيكولوجياً، حين يتعرض لأذى جسدي-نفسي مثل مزيج التعذيب والإذلال الذي شكّلَ تجربة واسعة النطاق في «سورية الأسد»، كان الإسلاميون أبرز ضحاياها. لكن من الصنف نفسه جميع أشكال التمييز والاضطهاد المديدة، كحال الكرد في سورية المعاصرة، وكحال أكثر العلويين في أزمنة ما قبل الدولة السورية الحديثة، وكحال فردية لكثيرين منّا في سنوات طفولتهم ويفاعهم. ومثلما يتندَّبُ جلدٌ تعرض لرضوض فيزيائية متكررة، فإن نفساً تعرضت لرضوض إذلال وتحقير متكررة تتندّبُ وتقسو، فتفقد قدرتها على الحركة المرنة ذهاباً وإياباً، على الخروج من النفس للنظر إليها من خارجها. يتقوقع المرء على نفسه أو الجماعة على نفسها، ويتطور لهما درع خارجي صلب، يحول دون الحركة الطليقة من النفس وإليها، وتالياً من ملاقاة آخرين والتعرف عليهم ومشاركتهم. وما يختنق في هذا التندّب أو يضمر هو التعدد داخل النفس، الذي يتولد عبر أفعال الخروج من النفس. أي أن الحركة داخل النفس أيضاً تتعذر. وإنما عبر ذاك التعدد وهذه الحركة يكون الواحد منا مجتمعاً، مجْمع أشخاص متفاعلاً.
على أن مفعول الظلم المتكرر لا يقتصر على تندّب أو تقوقع وضمور، بل يتعزز كذلك بنزوع «عقلاني» تُحفزه الضرورة إلى الاستغناء عن الضمير كشيء كمالي في أوقات العسر. الضمير مبدأ للغيرية، للشعور بالغير وتقمص الغير، ونحن كمظلومين في حالٍ لا تسمح لنا، صوناً لفُرص بقائنا ذاتها (أو للحيلولة دون تدهورنا في المكانة أو القدرة)، أن نكون غيريين. محتاجون لكل أنانيتنا كي نصون بقاءنا. أنانية الأفراد والمجموعات تزداد كلما كانوا غير آمنين على أنفسهم وأدنى تحكماً بشروط بقائهم. في السجن كان حسّ الشراكة بيننا يتراجع في أوقات الشحّ ونقص الطعام، ونميل إلى تقسيم المتاح بدقة تجنباً للنزاعات. هذا بينما نعرض درجة أكبر من الغيرية وبعداً أكبر عن المساواة التوزيعية في أوقات الوفرة. ونفترض أن مثل هذا ينطبق على الجماعات الأوسع. وفي شروط نازعة للإنسانية قد نتصرف بصور غير إنسانية صوناً لفرص بقاءنا. كانت المعتقلات اليهوديات في معسكر ماجدانك يتخاطفن الطعام قبل توزيعه من شدة جوعهن، فيندلق معظمه على الأرض ويختلط بالطين، لكنهن يتناولنه مع ذلك (من شهادة Nechama Epstein، في كتاب Century of Genocide, Critical Essays and Eyewitness Accounts من تحرير سامويل توتن ووليم بارسنز وإسرائيل شارني).
ويمكن لتوقف أفعال التعقل والمراجعة التي يتكون عبرها العقل والضمير، أفعال الخروج من النفس والعودة إليها، أن تأخذ واحداً من شكلين: أن نخرج من أنفسنا ولا نعود، ولعل هذا هو الجنون، أو أن ننحبس فيها لا نستطيع الخروج، وهذا هو الفعل النوعي للمظلومية الذي يؤدي إلى خفوت الضمير والعقل، وصولاً في الحالة القصوى إلى شكل آخر من الجنون. الانحباس في النفس كأثر للمظلومية هو وحده ما تهتم به هذه المناقشة.
نظام النفس المصمتة
ما نحصل عليه بفعل المظلومية هو نفسٌ مُصمَتة، خَلَت من التعدد، نفسٌ ملتصقة بنفسها، مُتشنِّجة، لا مجال للخروج منها ولقاء الغير بفعل مشقة الخروج من الدرع، وكذلك لأن فهم الغير والتعاطف مع الغير والتضامن معه، يقتضي طاقة غير متاحة للمظلوميين. وأعني بالمظلوميين من قد يكونون مظلومين فعلاً، لكن تطورت بينهم سرديةُ مظلومية، تضفي طابعاً نسقيّاً على ما يتعرضون له من ظلم، فيكون شاملاً للمجموعة كلها دون تمييز (يجري التكتم على من هم منّا وكانوا «عملاء» للظالمين المفترضين) من جهة، ويكون موقِعوه هم الجماعة الظالمة كلها (يجري التكتم على متضامنين منهم معنا) من جهة ثانية، ويكون الظلم من جهة ثالثة مستمراً ونابعاً من صميم تكوينهم ومنصباً على تكويننا ذاته (وليس من العوارض المتغيرة للسياسة والاجتماع والمصالح البشرية المتنازعة)، ومع ميل مُطّرد أخيراً إلى المبالغة والدوام والكلية. ما تعرضت له حنه آرندت من مزايدات وتسفيه إثر كتابها المشار إليه فوق، «إيخمان في القدس»، وقد حفّزه جزئياً على الأقل ما أشارت إليه من دور للمجالس اليهودية في تسهيل عمل النازيين في إبادة اليهود، يشير إلى الصفة النسقية التي تنزع سردياتُ المظلومية إلى إضفائها على وقائع الظلم الفعلية. بدا لمن هاجموا آرندت أيضاً أن العنوان الفرعي لكتابها، «تقرير عن ابتذال الشر»، بمثابة إنكار لعمق الشر النازي، ونفي لصفته الراديكالية (رداً على ذلك، وتأسيساً على اكتشافها الثوري أن الشر ليس صنيع أشرار بالضرورة، وأن التقاء تنظيم تراتبي بيروقراطي وسلطة مطاعة وتكنولوجيا متطورة، وشروط ملائمة كالحرب، يمكن أن يكون كافياً حتى يُرتَكَب شر خارق كالهولكوست، رأت آرندت أن الخير وحده ما يمكن أن يكون جذرياً، أن الشر لا يكون جذرياً قط، لكنه يمكن أن يكون متطرفاً).
وما يفرق بين المظلومية والظلم الفعلي هو هذا الطابع النسقي، وما يقتضيه من عنصر خيالي، من الصنف الذي أشار إليه زغمونت باومان في Modernity and the Holocaust، حين تحدث عن المظلومية الوراثية. العنصر الخيالي، المستقلّ عن تجارب ظلم حية، هو ما يجعل المظلومية وراثية، تستحضرها أجيال لم تعشها، وتعمل على تأبيدها، وترتاح حين توجد أفعال مهددة لها. وهو (العنصر الخيالي) قبل ذلك ما يجعل تجارب الإذلال والتمييز مظلومية جمعية حين لا تكون كذلك، أو حتى حين تكون جزئية. اكتشاف قنبلة زرعها فلسطينيون طفح كيلهم هو، يقول باومان، خبرٌ سارٌ للمظلوميين اليهود الذي لم يعش أحد منهم الهولوكست، وتكفّلت وراثة المظلومية بأن يعيشوه بَعدياً (وأن يصير بمفعولٍ راجعٍ ذاكرةً لليهود جميعاً). ويغذي العنصر المُتخيَّلُ في بنية المظلومية تمركز المظلوميات حول هويات جمعية (دين، عرق، طائفة…)، يجري بمفعول راجع أيضاً النظر إليها كجماعات وراثية ثابتة واضحة الحدود.
وقد يمكن فهم سلوك «الدولة الباطنة» في «سورية الأسد» على ضوء مفهوم المظلومية الوراثية. فالكلام على سلفيين وإمارات سلفية منذ بداية الثورة (قالت ذلك بثينة شعبان يوم 25 آذار 2011)، ثم الإفراج عن معتقلين سلفيين وسلفيين جهاديين تحديداً بعد ثلاثة أشهر من بداية الثورة، هو بمثابة توفير بيئة عامة مواتية لتنشيط المظلومية الطائفية، واستنفار الجمهور العلوي العام حول النظام.
في كل حال يُعوَّل على المظلوميات في إنتاج الجماعات، أو رصِّ أجسادها وتعزيز تمايزها عن بعضها. فما يثيره خطاب المظلومية من غضب وشعور بالكرامة يبدو حائزاً على طاقة استنفار جمعي عالية، تُعبّئ كثيرين ممن لم يطلهم ظلم مباشر ضد الظالمين المفترضين، فتجعل الظلم خبرة متخيلة لهم أيضاً، وتحوله إلى مظلومية جمعية. وبفعل تمركز المظلوميات حول الجماعات، فإن الاعتراض على المظلومية لا ينفتح على المساواة، خلافاً للاعتراض على الظلم، أي التمييز.
وما يمكن بناؤه نظرياً على هذه المناقشة هو أن الهويات وليدة المظلوميات وليس العكس. أعني بالهوية احتداد الوعي بالنفس والانشغال الزائد بتعريفها وتمييزها ووحدتها. فالهوية قلما تبرز كشاغل فكري وسياسي في غير الصورة التوكيدية الملتهبة التي تتولد عن التمييز، والمظلومية المبنية عليه. النظرية المضمرة في مفهوم الهوية ذاته هي أننا نتعرض للتمييز لأننا مختلفون، إثنياً أو دينياً أو مذهبياً أو جنسياً أو عرقياً… لكن يمكن أن نتساءل بقدر أكبر من الوجاهة عمّا إذا لم يكن تمايزنا العرقي والإثني والديني وغيره نتاج التمييز في المعاملة بيننا، نتاج «الظلم». وأن ترّقي الظلم إلى مظلومية، وما سبق ذكره من دور الخيالي فيها، هو آلية أساسية لإنتاج الهويات دون تمايزات سابقة، أو تحوّل تمايزات سابقة إلى انفصالات.
هذ الفرضية التي اعتقد أن تاريخ الإسلام يصادق عليها بقدر كبير، تستمد شرعيتها من ملاحظة أوضاع معاصرة تفيد بأننا نكون أوسع اختلاطاً وأقل تمايزاً وأدنى انشغالاً بتوكيد اختلافنا في أوضاع أقل تمييزاً، وأنه في شروط التمييز الأقل يكون الواحد منا مركب الهوية ويشكل مجتمعاً متنوعاً هو ذاته. يتعارض هذا التصور مع النظريات الهوياتية للتاريخ، القومية والدينية والعرقية…، لكنه يفيد في شيء آخر بالغ الأهمية في تصوري: توفير جسر نظري بين سياسات الطبقة وسياسات الهوية. فإذا كان محرك سياسات الهوية هو التمييز، وبخاصة صورته الأعنف التي هي الإذلال، فإن الأولوية السياسية هي لمقاومة التمييز والإذلال، ولعل الأولوية النظرية هي لمزيد من النظر في قضايا التمييز والمظلومية والهوية.
***
ومثلما حاولتُ أن أُظهِرَ في مقالة الظالمون العادلون، تحول سردية المظلومية بين المظلوميين وبين التفكير في ما قد يتسببون به هم أو منسوبون إليهم من ظلم. فهي بمثابة شرنقة ينحبسون داخلها، كل ما هو خارج الشرنقة ظالم وشرير، وكل ما يقومون به عادل. سؤال المظلومية: أين كنتم حين كنا…؟ يصدر عن مقاومة للاستماع إلى صوت الغير، أو مقاومة لمعنى ما يقال، بل إنكار أن يكون له معنى. «رب مستمع، والقلب في صمم»، يقول أحمد شوقي. هذا الصمم الاختياري هو الأساس في ما نعاينه من استحالة النقاش في بيئاتنا السورية اليوم بالتوازي مع انتشار أفعال القتل والعدوان، وما واكبها من عنف رمزي. استحالة بكل معنى الكلمة، مرتبطة بتندّب النفوس وتصلّبها، بالتقوقع والتعصب.
قد لا يتولد التعصب عن المظلوميات حصراً، لكن المظلومية مولدةٌ أيضاً للتعصب الذي يمكن تعريفه بأنه وحدانية النفس (يكون المرء وحيداً داخل نفسه، لا شركاء له فيها)، ووحدانية الجماعة التي تطرد التعدد من داخلها، ولا تريد الخروج من ذاتها، ولا تطيق خروج الأفراد منها وعليها. تنجرح الهوية الملتهبة بشدة إن حصل ذلك، كأن قطعة من جسدها انتُزِعَت.
في بعض المحكيّات السورية نصف شخصاً بأنه «شقفة واحدة» إن كان لا يمكن المزاح معه ولا يتقبل التهكم (وما يقتضيه التهكم من القدرة على اتخاذ مسافة من النفس)، أو إن كان بليداً في شؤون الحب (وما يقتضيه الحب بطبيعة الحال من خروج من النفس وملاقاة آخر).
الشخص الذي هو «شقفة واحدة» أو «مْسكّر» (مغلق) لا يستطيع أخذ مسافة من نفسه،والخروج منها لملاقاة غيره. ومن المحتمل لشخص آل إلى أن يتسكر أو يصير «شقفة واحدة»أن يركن إلى «برنامج» خارجي، يُسلِّمه زمام نفسه وتفريغ داخله المتضيق من التعدد، المقترن بالحيرة والتردد. البرنامج، أو ما قد يناسب تسميته الضمير الخارجي، يمكن أن يكون شخصاً أو شريعة أو كنيسة أو حزباً…، نمنحه في أنفسنا موقع الهادي المعصوم. بيئات المظلومية تنزع عبر الضمير الخارجي إلى التوحد حول زعيم أو قائد كبير، وينزع الطامحون إلى القيادة، بالمقابل، إلى تغذية المظلوميات كخطة للتعبئة وتحشيد جماعة أوسع حولهم. هذا يؤسس لعلاقات طاعة مشخصة أو انضباط مجرد، يمكن أن تخدم في عمليات إبادة كتلك التي كان إيخمان ضالعاً فيها.
ولعله ما كان لألمانيا ذاتها أن تقع تحت سطوة هتلر والنازية لولا أن الألمان المعتدّين بأنفسهم طوروا سردية مظلومية بعد الحرب العالمية الأولى التي هُزموا فيها، وفُرض عليهم في معاهدة فرساي دفع تعويضات مذلة، وجُرّدوا من مستعمراتهم، وجرى الحدّ من تسلّح ألمانيا، وخفضُ عدد جيشها وحجم أسطولها، ومنعها من بناء سلاح طيران. هتلر الذي سيلغي الاتفاقية عام 1935، استخدم إملاءاتها المهينة بكفاءة في دعايته قبل الصعود إلى السلطة عام 1933. هذه النقطة، المظلومية الألمانية، تغيب من كتاب باومان، الحداثة والهولوكوست، العظيم الأهمية من كل وجه آخر.
النفس المصمتة سجن من حيث أن النفس هنا لا تستطيع الحركة، الخروج من ذاتها والعودة إليها، ومن حيث امتناع تقمص نفوس أخرى والتعاطف معها، ومن عدم تشكل الضمير أو اختناقه. للنفس المصمتة داخلٌ ضيقٌ أو معدوم، ولا تتوفر فيها مساحة للغير، للضيوف. وفي سجن النفس المصمتة لا يدور حوار، يقتضي بدوره أن تكون النفس مسرحاً تلعب فيه نفوسنا، تتشاور وتتصارع. يبدو الداعشي النمطي مثلاً مصمت النفس من الداخل، لا تتمايز في نفسه منظماتٌ كالعقل والضمير. ومعلومٌ أن كثيرين من قادة داعش تعرضوا لإذلال تعذيبي، وغير قليل منهم، من القادمين من بلدان عربية وأوروبية، لديهم تجارب إذلال اجتماعي، لها فعلها في طرد التعدد من داخلهم، فصاروا أدوات قتل معادية للمجتمع وشديدة التصلّب والتعصب. الداعشي كائن معادٍ للمجتمع من حيث أنه ليس مجتمعاً هو ذاته. الواحد منّا يكون مجتمعاً، واجتماعياً بالتالي، لأنه ينطوي هو ذاته على تعدد بفعل انخراطه الاجتماعي وتفاعلاته الاجتماعية. التمييز والإيذاء هو بمثابة طرد من المجتمع، يدفع إلى طرد المجتمع من النفس، أي إلى ضعف الاجتماعية في داخل الإنسان، وربما يرده إلى «شقفة واحدة»، واحدٌ جامدٌ لا يتكون من أمثاله مجتمعٌ مهما كان العدد كبيراً. أو يتكون مجتمعٌ مصمتٌ فحسب، يراقب فيه الجميعُالجميع، مجتمعُ تجسسٍ شامل.
والقصد أن العداء للمجتمع ليس مسألة تكوين شخصي، بل هو نفسه منتج اجتماعي، يظهر على نطاق واسع في أوضاع التمييز والإذلال المعمم، مما هو واسمٌ لعالمنا «الشرق الأوسطي». الإنتاج الاجتماعي للمعادين للمجتمع يبدو في صعود عالمياً، باقتران مع أزمة الديموقراطية والمساواة في العالم.
***
يتوافق نظام النفس المصمتة مع صراع كلِّ كُلّ واحد منا، وكلنا معاً، ضد كل واحد منهم وكلهم، ويُلغي الصراع داخل النفس ومع النفس. وداخل المجموعة طبعاً، حيث ينبغي أن تكون لنا كلنا النفس نفسها. والواقع أن نظرية «صراع الحضارات» وأشباهها مبنية على تصورات اختزالية كهذه، حيث يكون كل واحد منا عينة مثالية على حضارتنا، وهي بدورها مكونة من عينات متماثلة هي كل واحد منا وقد خلونا من كل شائبة غريبة، وننخرط كلنا في صراع «حضاري» ضد كلهم. كانت مُخيلة هتلر مسكونة بصفاء عرقي من هذا الصنف، ونعرف من تاريخ النازية أن هذا الصفاء ديناميكية تصفية لا تنتهي، وما كان لها، لو لم تُحطّم من الخارج، أن تتوقف عند قتل اليهود والغجر والمثليين والمرضى العقليين.
إلغاء الصراع الداخلي يحول دون التغير الفردي والجمعي، والثقافي الاجتماعي، عبر إحلال الحرب ضدهم محل الصراع ضدنا، نحن كنفوس فردية، ونحن كمجتمع وثقافة، ونحن كعالم. وفي صراع غير مضمون ضد الغير، والصراع ضد الغير هو ما تنفتح عليه دون غيره عقائد المظلومية، يتعذر خوض صراع ناجح ضد الذات، وتغيير الذات، أي يتعذر خوض حرب هي الأجدر بأن تُخاض: الحرب الأهلية، الحرب ضد النفس. أو الثورة. هذه وحدها منتجة للثقافة والتغير الثقافي والاجتماعي، خلافاً للحرب ضد الغير التي تتوافق، بالأحرى، مع الجمود الثقافي الاجتماعي.
وخطورة المظلومية، والهويات الجمعية التي تُبنى حولها، هي أنها تسهّل انزلاق الثورة والحرب الأهلية إلى حرب ضد«ـهم»، أولئك الغرباء الظالمون المنحطون، فتؤول إلى تجميدنا ثقافياً بدل تحررنا.
تعذّرُ تغير النفوس والصراع في النفوس يجري تثبيته عبر العلاقة مع عالم النصوص: تتوافق المظلوميات مع تضيق النصوص ذاتها وتفريغها من تعدد الدلالات والمعاني المحتمل، وضمور البعد التأويلي في الثقافة الذي يعيد استثمار نصوص الموروث. تغلب، بالمقابل، القراءات الحرفية التي تجعل من النصوص كاتالوغاً لاستعمال المقدس، على نحو نجد أكثر أشكال تجسده تصلباً في السلفية الجهادية الإسلامية المعاصرة. هنا يكون النص/ النصوص الدينية أسلحة في الحرب، خالية من التباين والاختلاف والتناقض والاضطراب و«حمل الأوجه». ويبدو أن علاقة اليهود بالتوراة، وكانوا مهمشين طوال قرون، كانت من صنف مقارب، وهي لم تبدأ بالتغير إلا مع سبينوزا في القرن السابع عشر. ومعلوم أن الرجل اضطُهِدَ من الملأ اليهودي المعاصر له في أمستردام.
يتحول النص إلى درعٍ قاسٍ يحمي الجماعة المهددة من خارجٍ خطر. التعدد داخل النص يغدو مصدر هشاشة، والانطلاق منه (التعدد) يمسّ بفاعلية النص التعبوية، فيُرفَض. وفي بيئة من المخاطر والتهديدات والدروع، يمكن أن نفكر في تصمّت النفس كمقاومة للهشاشة، وفي النفس المصمتة كسلاح. الانتحاري يستخدم جسده سلاحاً بقدر ما هو خلا من التعدد الداخلي، بقدر ما توحد مع قضيته وصار «شقفة واحدة».
وما يعرضه الداعشي النمطي من كونه «شقفة واحدة»، مبرمجة على «الشريعة»، مرتبط بمظلومية شديدة، يمتزج الحقيقي فيها (حرمان سياسي، تمييز اجتماعي، تجارب تعذيب…) بالخيالي (المؤامرة اليهودية الصليبية على الإسلام)، لكن يجري تثبيته عبر نصٍ أُخلي هو ذاته من التعدد، وتحجّرَ، فصار سلاحاً. هناك نفس واحدة للدواعش هي نصوص «الشريعة»، أو «الإسلام»، نفس خارجية، بديلة عن نفس داخلية غائبة، وعن مجتمع ممتنع. للداعشي الذي انغلقَ داخلُه ضميرٌ خارجيٌ يضبطه، المفتي أو الشرعي.
وتعرض الإسلامية المعاصرة في عمومها، وبخاصة السلفية الجهادية، وثوقاً بالضمير الخارجي أقوى من ضمير شخصي لا يتكون دون خروج نحو الغير وتَمثُّل الغير، وهذا بالتناسب مع ركونها إلى المظلومية. نجد مثالاً صافياً للضمير الخارجي في واقعة وردت على لسان عبد المحسن بدرالدين، أحد أعضاء فريق الاغتيالات التابع لـ«جيش الإسلام»، التشكيل العسكري السلفي النافذ في الغوطة الشرقية. الرجل اعترف إثر القبض عليه بعد محاولة اغتيال فاشلة للشيخ خالد طفور بأنه حين كان يسألُ أحدٌ من الفريق عن تبرير اغتيال فلان أو فلان، كانت الإجابة: فيه فتوى! أي أن «شرعي» الجماعة أو هيئتها الشرعية قد أصدرت فتوى تبيح قتله أو توجبه. الفتوى هنا هي آلية لإعطاء شرعية دينية لأفعال إجرامية بما يُسكِتُ أي صوت داخلي محتمل. ويبدو أن هذه الآلية تقترنُ أيضاً بنظام طاعة لسلطة معلومة مثل تلك السلطة التي أطاعها إيخمان، وإن تكن سلطة عسكرية دينية في هذه الحالة. بالمناسبة، الشرعي الأول لجيش الإسلام الذي أفتى لبدر الدين باغتيال الشيخ طفور، سمير الكعكة، هو نفسه من كان وجه حسين الشاذلي، «ضابط أمن الغوطة الشرقية»، إلى تهديد رزان زيتونة بالموت في أيلول 2013، والأرجح أنه «الضمير» الذي أوعز بخطفها مع سميرة الخليل ووائل حمادة ونظام حمادي في كانون الأول 2013.
ويُظهِرُ المجتمع اليهودي الإسرائيلي في عمومه مقاومة قوية للإقرار بارتكاب الجيش الإسرائيلي جرائم حرب على ما ورد في كتاب باروخ كمرلنغ Politicide (الإبادة السياسية)، وعلى نحو يحيل إلى مفعول المظلومية. من جهة يرى كثيرٌ من اليهود أن «الجيش اليهودي لا يمكن أن يرتكب هذه الجرائم»، بل إن «جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية ترتكب دوماً بحق اليهود». أما إذا قام الجيش الإسرائيلي بعملٍ ما لا يحترم القوانين، فهو دوماً من باب «الدفاع عن النفس، وخدمة لقضية عادلة». ويرى آخرون، وإن لم يقولوا ذلك علانية وبوعي حسب كمرلنغ، أنه «بعد كل ما نال اليهود من أذى على يد الأغيار، من حق اليهود أن يكونوا قساة وعدوانيين». هذا المزيج من إنكار جرائمنا (لم نفعل)، ومن اتهام الغير (هم من يفعلون)، ومن تبرير الجرائم (يحق لنا أن نفعل) مشتركٌ بين المظلوميين كلهم. الأسديون والقوميون الكرد والإسلاميون شركاء في هذا المركّب كذلك.
في البيئات العلوية الأشد تماهياً بالنظام تشيع سردية تتذكر أوضاعاً تمييزية، وتخشى تكررها: إذا حكموا (هم السنة)، سوف يستعبدوننا، يقتلوننا، يغتصبون نساءنا، يقصفوننا بالطائرات! تبدو هذه المخاوف إسقاطات من واقع اليوم، لكنها تستنفر ذكريات من الماضي وتصنع منها «مظلومية وراثية» بتعبير باومان. والتأثير مماثلٌ لما هو الحال بخصوص الدواعش: قمع مراجعة النفس بمنع الخروج من النفس. لكن هنا ليس ثمة نص، أو هو لا يلعب دوراً يقارب النص الإسلامي السني. العلاقة المتصلبة في البيئة العلوية تنعقد أكثر على شخص، على قائد، مثل حافظ الأسد، ثم سلالته. إلا أن النجاح في تجنب الصراع ضد النفس أو «الحرب الأهلية» محققٌ هنا أيضاً. والتحجر على النفس بديلٌ عن التغير هنا أيضاً.
والآلية نفسها في تصوري بخصوص القومي الكردي في سورية. فإذا رسا تأويل المظلومية الكردية على تنظيم منحدر من البي كي كي، فلأنه تميز على الدوام بنظامه الواحدي المركزي العسكري، واختلاطه الأدنى من غيره بمجموعات اجتماعية وسياسية عربية، بل وحتى بالمجتمع الكردي السوري الواسع. ولا ريب أن الاعتقال المديد لعبدالله أوجلان، منذ نحو عشرين عاماً في تركيا، يوفر سنداً بطولياً للتماهي، ويرفع من تقدير الذات، لكنه يحول بالقدر نفسه دون تقمص الغير، القريب.
ومن المحتمل أن الصفة الأصولية النصية للسلفيين والإسلاميين متولدة عن الحاجة إلى درع دفاعي، لكنها في الوقت نفسه تحول دون ظهور قيادات سياسية تاريخية يمكن التماهي بها. النص المصمت، الدرع، «يقود» الجماعة بعيداً عن التاريخ وعن العالم لا نحوهما. ليس هناك حتى ما يعادل حافظ الأسد في البيئة العلوية السورية أو عبدالله أوجلان في البيئة الكردية التركية (والسورية بعد 2013) في الإسلامية السياسية المعاصرة ولا في الإسلامية الجهادية، وما ظهر من قادة في البيئات الإسلامية قادوا «أمتـ»هم المفترضة إلى عزلة عن العالم وإلى تأليب العالم عليها، أي إلى عكس ما ينتظر من دور للقيادة. بالعكس، حيث ظهرت قيادات نالت شرعية شعبية في بعض مجتمعاتنا المعاصرة، مثل جمال عبد الناصر وياسر عرفات، ظهرت خارج النص. ومن غير المتصور في تقديري أن تظهر قيادات إسلامية وازنة على أرضيه النص-الدرع، والمثابرة على المظلومية الانعزالية.
وأكثر ما يعكس أزمة القيادة عند الإسلاميين هو الشعار البائس: قائدنا إلى الأبد/ سيدنا محمد! ففوق ما يميز هذا الشعار من فقرٍ محزنٍ في المخيلة، دَفَع إلى السطو على مستودع خردة الشعارات الأسدية (قائدنا إلى الأبد/ الأمين حافظ الأسد!)، فإن المشكلة التي يحتاج حلها إلى قيادة جسورة في البيئة الإسلامية السنية هي بالضبط مشكلة الأبد النصي، وكيفية الخروج من أبدٍ لا تاريخي والتحرك السديد في التاريخ المتغير. يضلل الإسلاميون أنفسهم بالقول إن نصهم صالح لكل زمان ومكان، ويحتاجون إلى من يخرجهم إلى الزمان والمكان المتغيرين، قيادات تدرك أن التغير هو وحده ما يصلح لكل زمان ومكان.
وعموماً، يبدو أن المنظمات الأكثر صرامة تنظيمياً وإيديولوجياً، وأقل تعدداً داخلياً بالتالي، تستقطب أفراداً أكثر تصمتاً وأحوج إلى ضمير أو برنامج خارجي، وأقل تردداً ووساوس، وأمْيَلَ بالتالي إلى النموذج «الشمولي» في التنظيم والحكم. كان الشيوعي اللينيني الجيد هو شيوعي «ينكر ذاته»، ويطرد كل تعدد من داخله، فلا «يتذبذب»، ولا يتردد أو تنتابه الوساوس، حزبيته وعقيدته العلمية وإنسانيته شيء واحد. وهو لا يتعاطف مع العدو الطبقي، ويتكرس كلياً للحزب، ويبقى ثابتاً على المبدأ حتى الموت. نفسه هي قضيته، وهي نفسٌ خارجيةٌ أيضاً.
وعلى مستوى فردي، كان بشار الأسد، مثلاً، موضع سخرية في طفولته ضمن أسرته، ومن أخته بخاصة، وكان أخوه باسل هو المفضّل عند أبيهما. وحتى بعد مقتل أخيه ووراثته لأبيه في الحكم كان يُنظر إليه في أوساط دولة سلالته بعيون متشككة في أهليته، بل حتى بعد الثورة أمكن لصحفي موال للدولة الباطنة (ومعارض بقوة للدولة الظاهرة)، أن يعلن أن حافظ الأسد هو رئيسه، متحدياً أياً كان أن يفهم من ذلك ما يشاء! وهو ما كان يضمر نظرة استخفاف إلى بشار، يبدو أنها ما زالت حية بين مساندي النظام الطائفيين حتى اليوم. ويُحتمَل لمن يُستخَفُّ به ويكون موضع سخرية أن يطور منزعاً دفاعياً، فيبني سور حماية حول نفسه، يحول بينها وبين الحركة المرنة الحرة. في مقابلاته، لا يتلكأ بشار الأسد في الرد على ما يطرح عليه من أسئلة، على نحوٍ يُحتمَلُ أن يكون نشأ عن تصمّت نفسه فلا يجول فكره في ما يُسأل عنه، فيأخذ وقتاً قبل أن يجيب. لا فكر لديه، ولا حوار له مع نفسه. الإجرام واسع النطاق الذي أظهره بشار متصل في تصوري بتضيق مساحته الداخلية وتصمّت نفسه، وتالياً زوال مبدأ الغيرية منها. ولعل فيه أيضاً نزعة انتقام تولدت عما ناله من استخفاف.
ومنذ أن تتصمّت النفس تكفُّ الانتقادات الخارجية عن التأثير عليها مهما بلغت من الوجاهة، ما يجعل التغير أشد استعصاءً بعدُ. لا يتأثر الداعشي المحاصَر بنفسه والمحاصِر لنفسه بأي تحفظات أو لوم يأتيه من الخارج. لقد صفح نفسه بالنص المقدس، المتكلس كدرع، وصار كل اعتراض هو عداء للإسلام أو وسوسة من عمل الشيطان. وكان المناضل الماركسي اللينيني قليل التأثر بدوره بانتقادات خارجية، ولديه عليها ردود جاهزة تحيل إلى كائنات شريرة مثل البرجوازية والبرجوازية الصغيرة ومؤامرات القوى الإمبريالية وما إليها. يطور الضمير الخارجي في الحالتين وأشباههما آليات إبطال مناعية، تُعزز تصفيح النفوس المصمتة، وتمنع تسلل جدل العالم الخارجي وفوضاه إلى الداخل. وما كان يقال في عام الثورة السورية الأول عن أن بشار الأسد منفصل عن الواقع، قد يكون أنسب التعبير عنه بأن الرجل يعيش في عالمه الخاص، في نفسه المصمتة، لا ينفذ إليه شيء من عالم الآخرين وأصواتهم.
النقد الذاتي ممتنع أكثر لأنه يقتضي خروجاً من النفس ممتنعاً عند المظلوميين. النقد الذاتي الذي كان من الطقوس المراعاة في التنظيم اللينيني يهدف إلى إغلاق ما يحتمل وجوده من مساحات حرة داخل النفس، وإلى التطور إلى «شقفة واحدة» من الفولاذ.
وما يجمع المظلوميين من عدم الخجل أو غياب الشعور بالعار وثيق الصلة بانعدام الداخل وطرد الغير من النفس. يقتضي العار ضميراً داخلياً وشركاء خارجيين، وتالياً مسؤولية حيال الغير وصراعاً داخلياً قد تتعذر تسويته وتهدئته، ويؤدي إلى الانتحار. المظلوميون لا ينتحرون (لكنهم يمكن أن يكونوا محاربين شجعاناً، و«انتحاريين»).
وعموماً يبدو أن المظلوميين، الذي يعرّفون أنفسهم بمظلومياتهم، معادون للمجتمع: خالون من التعدد الداخلي، ومحتاجون إلى ضمير خارجي مُطاع، إن في صورة كلام إلهي أو نظرية علمية أو قائد عظيم، ومعادون للحياة الاجتماعية العادية. طاعة سلطة خارجية تحل هنا محل التفكير وصوت الضمير.
وينبغي أن يكون واضحاً هنا أن الشخص الخالي من التعدد، المطيع لآمر خارجي، ليس الطائفي السني أو العلوي، أو القومي الكردي؛ إنه أي واحدٍ منا. كل واحد منا هو ذلك المظلوم الناقم الذي قد يرقد على مظلوميته ويرعاها، ويتحيّن فرص الانتقام. وكل واحد منا يمكن أن يكون إسلامياً متطرفاً أو قومياً متعصباً أو طائفياً متشدداً أوعضواً في حزب فاشي، أو شخصاً ناقماً متندّبَ النفس عديم الحسّ بغيره مثل بشار الأسد. وكل واحد منا هو يحمل ندوبه النفسية الخاصة، وخروجه من نفسه مقيدٌ قليلاً أو كثيراً، ويحتاج أحياناً على الأقل إلى مرشد أو ضمير خارجي كي يتوجه في العالم. الشر لا ينبع من أعماق النفس أو من خبايا مظلمة فيها، وليس التوحش فعل متوحشين حتى نكون مبرئين من توحش محتمل لأننا لسنا (لا نرى أنفسنا) وحوشاً. بُنى النفس ذاتها متشكلة اجتماعياً عبر التمييز والإذلال، والمظلوميات التي تحجب حسّنا بما نوقعه من ظلم على غيرنا وبالظلم الواقع على الغير مُنتَجَةٌ اجتماعياً بدورها على ما سبق القول. تدفع تركيبات تمييزية للاجتماع والسياسة إلى تشكل النفوس في صور مصمتة، مرشحة لممارسة التمييز وإعادة إنتاجه وتعميمه، مثلما تدفع إلى تشكل هويات ملتهبة تصهر الأفراد وترصهم في جسدها. اللااجتماعي نتاجٌ اجتماعيٌ كما سبق القول، وليس كائناً غريباً، مزوداً بتكوين عدواني خاص. يلّح على هذا النقطة، بصورة مقنعة جداً، زغمونت باومان في كتابه المشار إليه فوق، واضعاً الصفة الاجتماعية لإنتاج الشر في تقابل مع تفسير الشر بتركيبة خاصة للشخصية، مثلما في كتاب الشخصية التسلطية لتيودور أدورنو وآخرين. وهو يبني على تصور حنه آرندت التي تنفي أن الهولوكوست وقع على يد أشخاص أشرار، منحرفيين أو ساديين، أو كارهين على نحو خاص لليهود.
وما يمكن أن نستخلصه مما تقدم هو بناء تصور للعدالة لا يردها إلى تصور ساكن عن انعدام الظلم أو غياب التظالم بين الناس، بل إلى مقاومة الظلم، وبخاصة التمييز والعنف التمييزي الإذلالي، مما سيجري الكلام عليه أدناه.
نظام النفس العديدة
مقابل النفس المصمتة الوحدانية، يمكن أن نتكلم على نفس منفسحة، متعددة واجتماعية. النفس التي طورت ضميراً داخلياً، وتشكلت حول أفعال الخروج منها والعودة إليها. فرصنا أكبر في أن تكون نفوسنا فسيحة بقدر ما يُتاح لنا أن نقاوم أسر أنفسنا في سرديات مظلومية، أو بخاصة بقدر ما ندرج مقاومة المظلوميات في مقاومة نشطة للظلم والتمييز. «الظلم يعمي القلب»، ومقاومة الظلم وحدها هي ما تفتح القلوب وتوسع عوالمنا الداخلية. السكوت على الظلم خطير، كلما طال خصوصاً، لأنه يفتح أبواباً قد لا تغلق للمظلوميات وعسكرة الهويات، وربما للمجازر والإبادات.
وليست النفس الفسيحة هي النفس «السوية» أو «الطبيعية». النفس الفسيحة تشكّلٌ ممكنٌ للإنسان، مثلما هي النفس المصمتة، وإن تكن أعدل وأكرم، وأمنع على الشر. التعدد الداخلي صورة تاريخية محققة ومحتملة في آن للإنسان، ليست تشكله التاريخ السوي، ولا هي فطرته التي لا تتبدل، ولا تكفل تحققها أي حتمية. هذه النفس الفسيحة نتاج اجتماعي بدورها مثلما هي النفس المصمتة، وإن كانت أوثقَ ارتباطاً بمقاومة التمييز مما هو ممارس في كل المجتمعات البشرية اليوم. ما قد يفرق بين أشكال الاجتماع البشري المعروفة ليس حتماً حضور التمييز من غيابه، بل إمكانية مقاومة التمييز من انعدامها، وما تتيحه مقاومة التمييز من منع تصلّب الانقسامات الاجتماعية، ومن تلاقي وتشارك أناس متنوعين من أجل أوضاع أكثر عدالة. تتيح المجتمعات الديموقراطية الحديثة، على عِلّاتها، مقاومة أشكال متنوعة من التمييز والاعتراض عليها، فيما لا تتيح ذلك، بل تقمعه بعنف، تنظيمات اجتماعية سياسية مثل «سورية الأسد» ومثل ألمانيا النازية وروسيا السوفييتية وكوريا الشمالية وغيرها. لكن مقاومة التمييز اتجهت إلى أن تقتصر، في المجتمعات الديموقراطية ذاتها، على هذه المجتمعات، ولا تكاد حتى تطال الغريب واللاجئ والمهاجر فيها. فضلاً عن أنها لا تطال الأفعال الخارجية لهذه الدول ذاتها. لا يخرج الناس في البلدان الأكثر تمتعاً بالحرية من نفوسهم إلا لينظروا إليها بعيون مواطنيهم وأشباههم، وليس بحالٍ بعيون الضحايا المحتملين لحكومات بلدانهم.
***
والسؤال العملي الذي تطرحه هذه المناقشة هو: ما العمل من أجل الحد من ظهور النفس المغلقة أو النفس السجن، وبالمقابل من أجل ظهور وانتشار النفس المنفسحة، المتعددة؟
قبل كل شيء الحد من التمييز في الحياة الاجتماعية، وتقييد العنف المحتمل في نطاق عقابي، منضبط ومُقعّد وغير تمييزي، والحيلولة دون ظهور العنف الإذلالي الجمعي. في المقام الثاني، يلزم إدخال الآخرين إلى نفوسنا كي يكونوا هم أيضا نفوساً لنا، وهذا يتطلب الثقة بهم. من هذا الباب فإن اختلاطاً أوسع بين الناس، واجتماعاً أكثر تنوعاً و«كوسموبوليتية»، هو إطارٌ أفضل لانفساح النفوس. كلما كان من يمكن أن نضع أنفسنا محلهم أكثر عدداً وتنوعاً، ساعدنا ذلك في أن نكون نحن أكثر تعدداً وضميرنا أكثر إحساساً بمتنوعين. لا شيء أكثر إلحاحاً في سورية، بعد التخلص من التوحش والعنف العنيف والإذلالي، من توفر فُسَحٍ أكثر لتلاقٍ وتعارفٍ أوسعَ بين منحدرين من الأوساط السورية المختلفة. يتشكل المجتمع المتضامن من الثقة بين السكان، والثقة تتكون من التعارف والتشارك، وما تولده تجارب التعارف من استضافة «غرباء»في نفوسنا، والتعرف فيهم على نحن.
لكن الثقة بين الجماعات لا تبنى على التعارف والتواصل وحدهما، أساسها الأمتن هو المساواة وانعدام التمييز. التمييز هو جذر مشاعر النقمة والركون إلى سرديات المظلومية وتشكل الهويات المتفاصلة. المجتمع المُعافى هو الذي يتجه نحو مساواة أكبر وتمييز أقل، بوصف ذلك الشرط الأنسب لظهور النفس المنفسحة المتعددة والمجتمع المنفسح المتعدد. الخير هو المساواة بين الناس، المساواة في الحقوق، و«العدالة الاجتماعية» بحيث تتجه فوارق الدخل والقدرة إلى التضاؤل، والمساواة السياسية، أي في صنع القوانين، والمساواة السيادية، أي في صنع السياسات. الشر في كل حال هو التمييز.
ومثلما أن ما يضبط السلطة في بلد هو تعدد السلطات، حسبما استقر في الفكر السياسي الحديث منذ مونتسكيو، فإن ما يمكن أن يضبط النفس هو التعدد فيها. نتعدد داخلياً بأن نخرج من أنفسنا ونعود إليها كما سبق القول، فيتمايز في أنفسنا ما يضبطها ويُقيّدها. تنمو لدينا عبر هذه الأفعال النفسُ المُحاسِبة أو اللائمة. النفس الوحدانية طاغية لأنه لا ضابط لها من نفسها. إنها نفس مطلقة.
ولا يتجه أي من مجتمعات الكوكب اليوم نحو مساواة أكبر وتمييز أقل. يبدو الميل العام بالأحرى نازعاً نحو تفاوتات أكبر ومساواة أقل، على المستوى المادي، وعلى المستوى السياسي، وعلى مستوى الكرامة والاعتبار. فرص ظهور اللااجتماعيين، ضامري الضمير أو ذوي الضمير الخارجي، تتجه إلى الزيادة فقط. داعش التي ولدت من حاضر العالم مرشحة أن تكون مستقبل العالم. (أعني باللااجتماعي ليس المتمرد عل صورة مثلى لما يجب أن يكون السوري أو الألماني أو المسلم… بل بالعكس، من يعمل على فرض صورة مثلى، ويثير سخطه الاختلاط والتمازج والكثرة في اجتماع الناس).
فإذا كان الضمير عين الصديق في داخلنا، العين اللائمة لكن المُحبّة، عين الأبوين، عين الحبيبة أو الحبيب، عين الصديقة والصديق، فالمسألة هي كيفية بناء مجتمع الصداقة والرفقة، مجتمع الأنداد الذي يقاوم أعضاؤه التمييز. وظاهرٌ أن هذا ليس هو المجتمع الذي يرتاح إليه مظلوميون يُفضِّلون مجتمع شركاء العقيدة والضمير الخارجي الواحد، ولا يثقون بالضمائر الفردية الكثيرة، ولا يُعوِّلون على أخلاقية مقاومة التمييز. الاستثمار هنا ليس في كل فرد، بل في شيء جمعي، يجب أن تقوم عليه هيئة ما: شريعة، كنيسة، حزب، قائد رمز…
ومن المهم أن يتشكل التعليم في صورةٍ مشجعة للمساواة بين المختلفين، ترعى في الأطفال قدرات الخروج من النفس إلى بعضهم، وإلى المحيط الطبيعي والاجتماعي، ومقاومة التمييز. ومقاومة «المظلوميات الوراثية» أيضاً، مثل تلك التي تحرص الحكومات الإسرائيلية على تغذيتها في اليهود بغرض إبقائهم في استنفار حربي دائم. وكذلك أن تتحول التربية عن التربية على الهوية، هوية الفرد المماثل لنفسه وهوية الأمة القائمة على المبدأ نفسه، وهوية المجموعة، نحو توسيع النفوس واستضافة الغير في داخلنا، واستعدادنا للتغير بفعل هذه التجربة. الكريم يتغير، مضياف، يرحب بالغير في نفسه ويتغير بفعل ضيافته. مقاومة التغير هي بخلٌ وشحٌّ في النفس بالمقابل. المحافظون شحيحو نفوس، مقيمون على ما يعرفون وما ألفوا، معادون للغريب والمختلف والوافد. بوصفهم محافظين لا يتغيرون، الإسلاميون بخلاء، نفوسهم ضيقة أو مغلقة، وشحيحة، لا تتسع لقادم جديد ولا تستضيف غريباً. وقد يكون أبرز مأخذ على سياسات الاندماج الأوروبية أن أقصى ما تتيحه للمتميزين من اللاجئين والمهاجرين هو أن ينالوا حقوقاً مثل غيرهم، لكن ليس بحال استعداداً للتغير المشترك (وهو ما يقتضي تغير الوافدين أيضاً بطبيعة الحال). مفهوم الاندماج غير ودود وغير كريم. الاندماج سياسة محافظة من حيث أن المضيف ليس مستعداً لأن يتعلم شيئاً من ضيفه/ ضيوفه، فيتغير بأثر الضيافة. هذه ليست ضيافة كريمة.
اقرأ أيضاً: سفارة دمشق في بيروت.. رعب اللاجئ من اجهزة المخابرات
وفي أغلب الحالات يتجاوز الأمر عدم الاستعداد للتغير بفعل تجارب الهجرة واللجوء إلى أشكال نشطة من التمييز ضد المهاجر واللاجئ. هذا يؤدي، على ما صار واضحاً، إلى المظلومية، إلى الأشكال المريضة والملتهبة من الهوية، وإلى جنون السجن المؤبد في النفس.
ثم إن الحاجة تزداد إلحاحاً إلى تصور مركب للضمير، يتجاوز كثيراً ما يبنى فقط على محبة الجار وتقمص الآخر الذي أراه. ففي زمننا تولدت الحاجة إلى ضمير بيئي مثلاً، نعلم أنه لا يكفي لتطويره أن نخرج من أنفسنا، وننظر إلى أنفسنا بنظرة إنسان آخر. يلزم أن ننظر إلى أنفسنا بعيني السمكة والطير الموشك على الانقراض والنبتة التي تُباد بوصفها ضارة، والموارد التي تُستنزَف. هذا لأنه في زمننا الحديث فقط، القرن العشرين والحادي العشرين، تنقرض الكائنات الحية بتسارع وتنضب الموارد لأسباب إنسانية. التمركز حول الإنسان لم يعد فعلاً أخلاقياً مُحرِّراً، مثلما وقت كان في تقابل حصري مع التمركز حول الله، بل هو يتجه لأن يكون فعلاً تدميرياً ولا أخلاقياً جذرياً.
هذا يقتضي الخروجَ من فهم الخروجَ من النفس كفعلٍ بسيطٍ مماثل لذاته دوماً، ننظر وفقاً له إلى أنفسنا من المسافة نفسها ومن خارج متماثل. فمن شأن ذلك أن يكون انحباساً في محيط ثابت، كأنه سجن، وإن لم يكن الإكراه على البقاء فيها خارجياً. لا يكون الخروج من النفس فعلاً مُحرِّراً ومُحيياً للضمير إن لم يكون خروجاً ديناميكياً، بحيث نخرج على خروجنا المألوف ولا ننحبس في النسق نفسه للخروج من النفس (مقالتي: الحرية: البيت، السجن، المنفى… العالم). الضمير يكون حياً أكثر كلما تنوعت العيون الصديقة التي ننظر منها إلى أنفسنا، لتكون منها عين النملة وعين السمكة وبيئة النبتة التي نواجهها بالإبادة. هذا يقتضي أن نخرج من أنفسنا على نحو يخرج على سوابق خروجنا، أو بعبارة أخرى ألا يكون خروجنا من أنفسنا هو الخروج نفسه كل مرة. هذا الخروج المغاير هو فقط ما يصنع تاريخاً.
وبالارتباط مع ذلك لم يعد يكفي أن أضع نفسي محل جار السكن أو زميل العمل، أو حتى المنحدر من طائفة أخرى أو إثنية أخرى في بلدي، بل تشتد الحاجة (وتتطور الإمكانية) لأن نضع أنفسنا محل غرباء، ونطور ضمير عالمياً، يتحمل المسؤولية عن العالم ويدافع عن مبدأ المسؤولية العالمية. وبعد حين، وبخاصة إن صحت المعلومات عن وجود كائنات حية في كواكب حول المشتري وزحل، أو أي مكان من العالم، ستنشأ الحاجة إلى النظر إلى أنفسنا بعين هذه الكائنات، وصون فرصنا المشتركة في الحياة وإعمار العالم.
المسألة تاريخية بقدر كبير كما هو ظاهر. هناك أفعال جديدة، ومعها تظهر الحاجة إلى أصول للأفعال الصحيحة، إلى نفوسٍ مُحاسِبة أو ضمائر. لم يعد هناك من هم أو ما هم بعيدون كفاية كي لا يكونوا جيراناً، بمن فيهم وبما فيهم كائنات محتملة في كواكب بعيدة قد تصبح قريبة بين عشية وضحاها.