تضاعف الأمكنة أحياناً فضول الصحافي. كنا في قصر الشعب في بكين. قبالة ساحة تيان آن مين الشهيرة وعلى مقربة من ضريح ماوتسي تونغ. وكانت المناسبة الغداء الذي أقامه الرئيس شي جينبينغ على شرف ضيفه الملك سلمان بن عبد العزيز. كان يمكن أن أتحدث في مواضيع محايدة. عن انطباعات زائر العاصمة الصينية أو الفرار مثل البريطانيين إلى حديث الطقس. لكن الصحافة مهنة مزعجة بطبيعتها، ومثلها الصحافي. سألت جاري الصيني ماذا كان يمكن أن يحدث لو كانت الصين محكومة حتى الآن حرفياً بأفكار ماو؟ ابتسم وقال: ربما كانت هناك صين غير التي تراها اليوم.
حاولت الذهاب أبعد. قلت أتصور أنها كانت ستنفجر تحت وطأة المشكلات الاقتصادية وقدر من العزلة عن العالم. أجاب: هذا رأيك. أنا رأيي أننا كنا سنعيش في صين أخرى. تذكرت حينها أن الرئيس، وهو الأمين العام لحزب ماو، موجود على مسافة أمتار، وأن الرسميين الصينيين يتجنبون نبش الأضرحة والتلاعب بمصادر الشرعية. سألته عن المنعطف الذي افتتح المسار الذي أدى إلى ولادة الصين الحالية. قال إن نقطة التحول بدأت مع دينغ شياو بينغ الذي تولى القيادة بعد غياب ماو. ولفت إلى أن دينغ الذي أدرك خطورة الجمود قاد عملية الدعوة إلى الإصلاح، لكن وفقاً لمعادلة ذهبية مفادها الإصلاح التدريجي تحت سقف الاستقرار. إصلاح الاقتصاد وإصلاح علاقات الصين بالعالم والانتماء إلى العصر. طلبت منه أن يختصر التحديات التي تواجهها الصين الحالية. قال إنها تبدأ بالاقتصاد، خصوصاً بعد تراجع معدل النمو الذي كان قياسياً. ثم مسألة العدالة الاجتماعية، ذلك أن الانفتاح أوجد تفاوتاً بين الأغنياء والفقراء، وهو ما تحاول السلطات ضبط آثاره. والملف الثالث هو البيئة ومشكلاتها.
اقر ا ايضًا: ثلاث هزائم كبرى في سوريا
وشدد على أن كل المعالجات تتم وفقاً للمعادلة الذهبية: مواصلة التقدم مع حفظ الاستقرار، وهي مسألة لا يتهاون فيها الحزب الذي يزيد عدد أعضائه على عدد سكان ألمانيا. من حسن حظ الصين والعالم أن تجربة دينغ لم تنتهِ إلى ما انتهت إليه تجربة ميخائيل غورباتشوف. كان يمكن للانهيار الصيني أن يكون كارثياً وأن يغرق هذا الخزان البشري الهائل في نزاع قوميات وجهات، ويغرق معه العالم في تسونامي من اللاجئين. جنّب دينغ بلاده مصيراً قاتماً آخر. كان من شأن التمسك الحرفي بعقاقير ماو و«الكتاب الأحمر» أن يدفع الصين إلى مشهد كوري شمالي، أي ترسانة نووية وصاروخية تمارس الابتزاز فوق بحر من الجائعين. كانت لماو هالة استثنائية، وكان لبعض أخطائه الحجم نفسه. أدمت «الثورة الثقافية» البلاد والعباد والاقتصاد. وقع «الربان العظيم» رهينة انتصاره وصورته وجماهيره. جاء دينغ من المنجم نفسه. أدرك أن الأفكار تحمل بصمات الزمان والمكان اللذين ولدت فيهما ولا تصلح لكل زمان ومكان. نزع القداسة عن وصايا ماو، لكنه لم ينكل بجثته كما فعل نيكيتا خروتشوف بجثة جوزيف ستالين. لم يخرج دينغ جثة ماو إلى الشارع بل تركها ترقد بسلام. أخذ منها شرعية الاستمرار في حكم الحزب الواحد وراح يفتح الشبابيك الصغيرة في الحزب والدولة والمجتمع. إصلاح هادئ وهادف ومبرمج وتحت الرقابة، مع ضبط صارم لشهيات المغامرة وإحراق المراحل أو محاولة النكوص إلى الماضي. التفت دينغ إلى العالم. إلى الولايات المتحدة وأوروبا واليابان. إلى البلدان التي تتكئ على الأرقام، لا على حرير الوصفات الآيديولوجية والروايات الرسمية الوافدة من مطابخ الطاعة والامتثال وتنزيه «القائد التاريخي».
سار ورثة دينغ على الطريق نفسها. حرسوا الاستقرار وزادوا جرعات التغيير في الاقتصاد. مسيرة سهّلت للأمين العام الحالي أن يقف السنةَ في دافوس بوصفه كبير المدافعين عن العولمة. وبوصفه أيضاً المؤتمن على تجربة أخرجت سبعمائة مليون صيني من سراديب الفقر وجعلت الصين الاقتصاد الثاني في العالم. تستحق التجربة الصينية قراءة عربية متأنية، خصوصاً بعد «الربيع العربي» ودروسه الباهظة. رفض ورثة ماو تقديس علاجاته وأفكاره، لكنهم حاذروا الانهيار الكبير. كانت لديهم رؤية وبرامج وتسلحوا بتطلعات الناس وبالواقعية والصبر من دون التنازل عن الأحلام. قادوا عملية تغيير للمناهج والعقليات والأساليب انتهت بانخراطهم في العصر ومعركة التقدم. أنقذوا الصين وضريح ماو معاً. ليس بسيطاً أن يتفق الصينيون والعالم في أن دينغ هو الذي أطلق هذه الورشة. أرفع وسام يمكن أن يمنحه التاريخ لقائد أو زعيم هو أن يصفه بأنه الرجل الذي فتح النافذة. يحتاج العرب إلى أكثر من دينغ. ورحم الأمة ليس بخيلا.. .