ضمن حركة بدأت بالاتساع دخلت الجامعاتُ الأميركية، ومن ضمنها أمس الأول الجامعة الأميركية في بيروت، المعركةَ الضخمةَ ضد قرارات الرئيس دونالد ترامب الأخيرة بحظر دخول مواطنين ومهاجرين من سبع دول في العالَمَيْن العربي والمسلم إلى الولايات المتحدة الأميركية.
اقرأ أيضاً: أميركا… حين تتصدّع
أبرز البيانات المعارضة حتى الآن صدر عن منظمة الجامعات الأميركية (AAU) التي تضم 62 جامعة. كذلك يمكن ذكر بياني رئيس جامعة رايس دافيد دبليو. ليبرون وجامعة برادلي وغيرهما.
الدكتور فضلو خوري بعد رسالته إلى أسرة الجامعة الأميركية في بيروت أمس الأول بات جزءا من لائحة الشرف هذه التي تتصدى فيها الجامعات الأميركية لرفض قرارات ترامب من موقع الدفاع الشجاع عن القيم الأميركية في الحريات وتكافؤ الفرص وحق الهجرة وتقاليد دعم اللاجئين.
اللافت في هذه البيانات جميعها على اختلاف تقنيات مخاطباتها هو التذكير بجوهرية القيم الأكاديمية الأميركية من حيث التشديد على دور الكفاءات والموهوبين الجامعيين في التجديد والاكتشاف والتطوير. لا يتردد أي من هذه البيانات في اعتبار الهجرة وقبول الطلاب المهاجرين في أساس التقاليد الأميركية كما لا تتردّد كلها في اعتبار قرارات ترامب الأخيرة تهديدا مباشرا لكل الحاضر والمستقبل الأميركيّيْن وتدعو ترامب إلى إلغائها. حتى أن بيان رئيس جامعة رايس يضع برنامجا تفصيليا لمساعدة الطلاب الموجودين في مآزق عملية أو موقوفين بسبب قرارات حظر الدخول.
لا أكتب هذه السطور لأمتدح هذه الجامعات وخصوصا الجامعة الأميركية في بيروت بقدر ما أكتبها لأخاطب الجامعات اللبنانية والعربية الأخرى من زاوية شديدة الأهمية في عالم غالبا ما ارتبط فيه أو ترافق القحط العلمي للمؤسسات التربوية مع نقص الحريات بل مع الاختناق السياسي والاجتماعي والفكري.
ولأن الجامعة الأميركية في بيروت لها أهمية خاصة بالنسبة الى لبنان والمنطقة، يمكن التوقف قليلا عند بيان رئيسها.
البيان الذي أصدره رئيس الجامعة أمس الأول ووجّهه كرسالة إلى أسرة الجامعة أساتذةً وطلابا وإدارة ومؤسسات يستحق أن يكون على الصفحات الأولى في الصحافة اللبنانية والعربية.
هو درس حقيقي لمعنى استقلالية الجامعة يجب أن يقرأه رؤساء وأساتذة وطلاب الجامعات الأخرى المحلية قبل غيرهم. استقلالية الجامعة حين تُمارَس عمليا وفي لحظة تكون فيها حكومة البلد المعني، وهي هنا الولايات المتحدة الأميركية، منخرطة في سياسات “تناقض القيم الراسخة للحرية والعدالة” كما كتب الدكتور فضلو خوري في وصفه للقرارات التي أصدرها الرئيس دونالد ترامب. ليس هذا الموقف استثنائيا بالنسبة الى بلد مثل الولايات المتحدة. فاستقلالية الجامعات في المسائل التي تتعلق بالسجال والاختلاف حول المبادئ الرئيسية أمر مألوف وعادي ومن الطبيعي في الأزمات الكبرى أو التي تعتبرها الجامعة كبيرة أن يكون لها موقف واضح وحاسم غير مرتبط بموقف حكومة واشنطن ورئيسها.
صحيح أن قرارات الرئيس دونالد ترامب تتناول دولا من المنطقة أي أنها تتناول محيط الجامعة العربي والمسلم الذي طالما على مدى تاريخها استقبلت نخبا منه ومن كل بلدان المنطقة الشاسعة وساعدت في تخريج نخب وأجيال من بيئات متعددة، وهي بالتالي معنية مباشرةً وبشكل حيوي بما يحدث في أميركا والعالم اليوم حول هذا الموضوع… رغم ذلك فإن صدور موقف واضح وحاسم عن الجامعة وضد حكومتها يمثِّل خطوة عاقلة وثمينة لا بد منها لكي تكون الجامعة الأميركية في بيروت منسجمة مع تقاليدها وفلسفتها التربوية، وهي التي جاءت من مسار تاريخي بدأت فيه دينيةً وتحوّلت إلى أحد أبرز المعاقل العلمانية الصامدة في المنطقة. علمانية، كالعلمانية الأم الأميركية، لم تكن يوما مفصولةً عن الحريات الدينية.
سواء جاءت هذه المبادرة من رئيس الجامعة وحده أم تمت بنصيحة أو بعد استشارة مجلس الأمناء في نيويورك، كل هذه الاعتبارات لا تغيِّر من القيمة الاستثنائية لهذا الموقف بالنسبة الى المحيط العربي بصورة خاصة.
رئيس للجامعة هو خريجها أصلا يعرف أكثر من غيره أن وجود أمثال دونالد ترامب وسياساته المعادية للهجرة كان لو حصل في زمن سابق لربما منع الطالب فضلو خوري نفسه من إكمال دراسته في أميركا مثلما كان ذلك سيمنع ألوف بل عشرات ألوف الطلاب من الهجرة العلمية إلى جامعات أميركا على مدى أجيال.
وأكثر لحظات البيان جوهرية بعد أن يؤكد التعاطف مع مآسي المهجَّرين ولاسيما في الظروف الحالية للعالم العربي، هي حين يذكِّر ترامب بأن قراراته تمس بديهيات الدور الأساسي للجامعة في انتقال الأساتذة والطلاب الزائرين لأميركا لـ”تبادل الأفكار”. ماذا يعني نظام التعليم الأميركي كله من دون هذا التبادل؟ يذكِّر بكل ذلك البيان، مثل كل البيانات الأخرى، مشددا على “الحلم الأميركي” الذي تمثّل الجامعة أبرز سلالمه في المنطقة.
لم تكن الجامعة الأميركية يوما جامعة فقراء وإن كانت أعطت دائما وبشكل متزايد فرصاً للكفاءات من ذوي الدخل المحدود ينبغي دائما البحث عن وسائل توسيعها، كما أنها لم تكن يوما جامعة لاجئين وإنما هي دائما جامعة “نازحين علميين” من كل المنطقة. وهي بدورها الثابت والمتغيِّر كنقطة عبور إلى النظام التعليمي الأميركي داخل أميركا، ربما تشعر “ًغريزيا” (وللمؤسسات العريقة غرائز أيضا)، كأي جامعة، أنها لا تستطيع التنفس أو الازدهار في أميركا ترامبية.
قد يقول البعض أن بيان الجامعة كان يجب أن يصدر بصورة من الصور بسبب موقع الجامعة (وهذا ليس بديهيّاً)… لكنه بالنتيجة صدر وبمضمون صريح في قلب واحد من السجالات الذي ربما أصبح أحد أعظم السجالات الأميركية الداخلية في القرن الحادي والعشرين… جمهورا ونخبا ومؤسسات.
تسقط الجامعات مع سقوط الدول أو تنحط. ولكن الدول ترتفع بارتفاع الجامعات. السقوط هو وضع راهن ثبت في جامعات دولنا الرسمية. الجامعات المسماة وطنية. ربما يكون التعميم ظالما جزئيا لبعض المؤسسات الجامعية الرسمية ولكن المعادلة العامة ثبتت صحتها: أين الجامعة السورية؟ أين الجامعة العراقية، أين الجامعة اللبنانية، فالمصرية فالليبية ف ف ف..؟ ماذا بقي من كل هذه الجامعات وبعضُها بدأ طليعيا كالمصرية والسورية.
لهذا يجب البحث دائما عن المثالات المشرقة للتأثّر بها. وجاءتنا من الكثير من الجامعات الأميركية بينها “أعرق جامعة في الشرق الأوسط” كما وصفها بيان شارع بلس.