أهلُ قرية الطفيل: من حالمين بتعبيدِ الطريق…الى مهجّرين في وطنهم!

قرية الطفيل
تقع قرية "الطفيل" اللبنانية الحدودية، في محافظة بعلبك الهرمل، في أقصى السلسلة الشرقية لجبال لبنان، أي في البقعة التي تشرق منها الشمس على لبنان. ترتفع ١٧٢٠ متراً عن سطح البحر، وتُعتبر أعلى نقطةٍ لبنانية مأهولةٍ بالسكان. في فصل الشتاء يصل ارتفاع الثلج فيها، الى نحو مترين، وتنقطع كل الطرقات الموصلة اليها ، لما يزيد على ستة أشهر. تبلغ مساحتها ٥٢ كيلومتراً مربعاً، ويبلغ عدد سكانها ما يقارب خمسة آلاف نسمة، ينتمون في أغلبيتهم الساحقة الى الطائفة السُنّية. أبرز مصادر دخلهم يأتي من تربية الماشية ومحاصيل زراعة الأشجار المثمرة، ولاسيما أشجار الكرز والتفاح والمشمش والإجاص. أبرز عائلاتها هي: دقّو والشوم والآغا.

قرية الطفيل اللبنانية القابعة على خطّ التهميش والحرمان والنسيان، وخلف الجبال والوديان، هي جغرافياً أقرب الى قرى منطقة القلمون السورية، منها الى القرى اللبنانية، فهي محاطة بثلاث قرى سورية من ثلاث جهات، وهي “حوش عرب” شرقاً و”سهل رنكوس” جنوباً و”عسّال الورد” شمالاً، والتي تبعد عن الطفيل نحو ثلاث كيلومترات، وتفصلهما جرود وعرة. أما غرباً من الجهة اللبنانية، فأقرب القرى اليها هي “حام” و”عين البنية” و”الشعيبة” و”راس الحرف” و”معربون” التي تقع ضمن جرود بلدة “بريتال”. وتبعد “راس الحرف” عن الطفيل ٢٣ كيلومتراً، أما قرية “معربون” فتبعد عنها ٢١ كيلومتراً، ويفصلها عن مدينة “بعلبك” نحو ٤٥ كيلومتراً. وبسبب عدم وجود طريق مُعبّد يصل القرية بالوطن، فان الرحلة الى سهل البقاع قد تستغرق نحو ست ساعات عبر طريقٍ ترابي وعر وصخريّ متعرّج، سلوكه محفوف بالكثير من المخاطر، لذلك يضطر الأهالي الى الذهاب الى دمشق، عبر بلدة رنكوس السورية، حتى يتمكّنوا من المجيء الى لبنان.

اقرأ أيضاً: رحلة العنف المقدّس من الوهابية إلى الدولة الإسلامية

تعاني هذه القرية المهملة إنمائياً والمعزولة جغرافياً والمقطوعة عن العالم لولا بعض المعابر الترابية الحدودية التي شقّها المهرّبون، من نقصٍ مزمنٍ في الخدمات الرئيسية، نتيجة إهمال الدولة اللبنانية لها منذ عهد الاستقلال، رغم كل الوعود والعهود الوزارية التي كانت تُعطى للأهالي على مدى عقود – وخاصةً قبيل إجراء الانتخابات النيابية – بالعمل على تعبيد طريقٍ يربطهم بالوطن الذي لا يربطهم به شيءٌ، سوى حمْلهم الهُويّة اللبنانية ، هذه الهُوية الملتبسة التي وضعتهم في أزمةٍ وجودية مزّقت شعورهم بالولاء والإنتماء: فهم يحملون الجنسيّة اللبنانية، ولكنهم يحصلون من سوريا على كل حاجاتهم من الطعام والشراب والملبس والدواء والطبابة والتعليم والكهرباء والهاتف والوقود، حتى انهم يبيعون ويشترون بالعملة السورية. ولا يوجد في القرية بلدية ولا نقطة للجيش اللبناني ولا مركز لقوى الأمن، يوجد فقط مدرسة رسميّة ابتدائية.

المفارقة أن الدولة اللبنانية لا تتذكّر هذه القرية المنسيّة الواقعة ضمن جيبٍ داخل الأراضي السورية ، إلا قبيل إجراء الانتخابات النيابية، حيث يتوجه المرشّحون للنيابة بطائراتٍ خاصة ، لإقناع الأهالي بالإقتراع لمصلحتهم ، أما في فترة الإنتخابات، فتحمل طوّافةٌ من الجيش صناديق الإقتراع الى مدرستها الإبتدائية، كي يدلوا بأصواتهم فيها . أي ان هؤلاء اللبنانيين ليسوا بالنسبة الى العمق اللبناني، أكثر من مجرد كتلةٍ ناخبة وأرقامٍ في صندوق. ولولا أهميّة هذه الأرقام في حسابات القوى السياسية، لم يكونوا موجودين أصلاً في حسابات الدولة اللبنانية.

بدأت مأساة أهل الطفيل، عندما بدأت مأساة الشعب السوري. ففي أعقاب بدء المعارك في منطقة القلمون السورية المحاذية لهم، بين النظام السوري والمعارضة، شنّ جيش النظام السوري مع “حزب الله” اللبناني حملة عسكرية عنيفة على قرى القلمون، ما أدّى الى لجوء ما يزيد على عشرة الآف شخص من ساكنيّ بلدات “حوش عرب” و”عسّال الورد” و”بخعة” و”رنكوس” و”يبرود” إلى الطفيل التي تُعتبر القرية الآمنة الأقرب إليهم . وكان هؤلاء النازحون السوريون يعيشون في المنازل المهجورة والحظائر وفي البساتين وتحت الأشجار وعلى الطرقات وفي المغاور المنتشرة في المنطقة المحيطة بقرية الطفيل.

ونتيجة تعاطف القرية مع الثوّار، واستقبالها النازحين السوريين الذين تربطهم بالأهالي علاقات القرابة والمصاهرة وحُسن الجوار التي تمتدّ لعشرات السنين، فقد قصفت قوات الأسد القرية بالطيران الحربي، ودكّتها بالمدفعية الثقيلة والقذائف الصاروخية، ومنعت أهلها من التوجّه الى الداخل السوري، وفي نفس الوقت قدم عناصر من “حزب الله” من قرية بريتال اللبنانية، ومنعوهم من التوجه الى الداخل اللبناني، وضربوا عليهم حصاراً دام عدة شهور، قطعوا خلاله ذلك الطريق الترابي الوحيد الذي يربط القرية بباقي الأراضي اللبنانية، وأقاموا الحواجز والمتاريس عليه. تحت وطأة هذا الوضع المأسوي ، تشرّد الأهالي في الجبال والأودية، وكادوا يموتون جوعاً وبرداً، واضطروا الى قطع شجر الكرز التي تُعتبر اهم مصدر رزقٍ لهم، ليتخذوا من أغصانه حطباً للتدفئة في أيام الصقيع، والبعض منهم اضطر للنزوح الى الداخل اللبناني، هرباً من الموت.

في سياقٍ متصل بتدهور الأوضاع الإنسانية في القرية، وفي سابقةٍ هي الأولى في نوعها ، صدمت الرأي العام اللبناني، ترأس وزير الداخلية والبلديات “نهاد المشنوق” بتاريخ ١٩ نيسان ٢٠١٤، اجتماعاً أمنياً حضره ضابطُ وحدة الأمن والارتباط، وعضو مجلس الأمن المركزي في “حزب الله”، الحاج “وفيق صفا”. كان الهدف من الإجتماع، وضع خطة أمنية تقضي بنشر الجيش لضبط الأمن في محافظة البقاع، والبحث عن حلول لأزمة اهالي الطفيل. وقد برّر الوزير دعوته “صفا” الى حضور ذلك الاجتماع الحكومي، بأن “حزب الله” هو “قوة أمر واقع” في المنطقة الحدودية، وبأنه جزء من القتال العسكري الدائر في سوريا، ومن هنا ضرورة التنسيق معه في أيّ خطةٍ أمنية لحماية أهالي الطفيل. بعد إنتهاء الاجتماع، صرّح الوزير أنّ “صفا” الذي تمّ تكليفه بمعالجة ملفّ الطفيل، قد أبدى “إيجابيةً وحرصاً” على أمن أهل الطفيل، واستعداد الحزب لتسهيل كل ما يؤمّن سلامتهم، بالتنسيق مع الجيش السوري، وأكّد أن الخطة الأمنية ستبدأ في البوم التالي، وهي تتضمّن إجلاء الجرحى ومَنْ يريد من المدنيين من أهل الطفيل، لحمايتهم من الحريق السوري.

في ٢٢ نيسان ٢٠١٤ ، وبهدف كسر الحصار والتخفيف من معاناة اهالي الطفيل، بادرت جمعيات إغاثية مع دار الفتوى في بعلبك، بالتعاون مع القوى الأمنية، الى إرسال قافلة إغاثية إنسانية تتضمن حصصاً غذائية من الخبز والطحين والحليب، وبعض الأدوية والوقود والخيم. وقد رافق هذه القافلة الصليب الأحمر اللبناني مع العديد من الوسائل الإعلامية اللبنانية. ولدى وصول القافلة الى الطفيل، استقبلها الأهالي بالورود والزغاريد، فرحاً بعودة الدولة اليهم.

ولانّ سياسة التجويع والتضييق والحصار المضروب على قرية الطفيل، اشتدت واستمرت. فقد انطلقت المناشدات التي تطالب الجيش اللبناني والأجهزة الأمنية بوضع نقاط أمنية في القرية وتوفير ممرّات آمنة للأهالي، وتعالت الصرخات التي تدعو الحكومة اللبنانية الى التدخل للقيام بما يجب عليها لإغاثتهم وحمايتهم من القصف العنيف الذي إستهدف المنازل وبئر الماء الوحيد في القرية، والمسجد والمستوصف والمدرسة ومخيمات النازحين السوريين، وسقط خلاله العشرات من الجرحى والقتلى. ولكن السلبية والصمت واللامبالاة كانت نصيبهم الوحيد من دولتهم .

بتاريخ ٢١ حزيران ٢٠١٤، عُقد مؤتمرٌ ببيروت، بعنوان ” أنقذوا أهل الطفيل”، ضمّ العديد من المرجعيات الدينية والشخصيات الأهلية والمدنية ، صدر في نهايته بيانٌ يطالب الدولة بتحمّل مسؤولياتها تجاه مواطنيها، مؤكداً ان الطفيل هي قرية مسالمة ومحايدة وليست طرفاً في النزاع والصراع الدائرين في سوريا ، وهي لا تأوي مسلّحين أو مقاتلين كما تُشيّع بعض الجهات لحساباتٍ سياسية . ولكن كل المناشدات بضرورة حماية المدنيين وتثبيتهم في أرضهم، لم تلقَ أي استجابةٍ من الدولة.

في وقتٍ لاحق، أعلن الجيش السوري قرية الطفيل منطقةً عسكرية، ووجّه إنذاراً الى الأهالي بضرورة إخلاء القرية خلال ٢٤ ساعة، وقام مع عناصر من “حزب الله” الذي وصف قريتيْ الطفيل وعرسال بأنهما “ممرّات للموت”، بإرغام أهلها والنازحين السوريين فيها، على الخروج منها، ودخلوا القرية وراحوا يعيثون فيها تخريباً وتدميراً، وأقاموا داخلها وفي محيطها، عدة مراكز وحواجز ونقاط أمنية، نظراً الى موقعها الاستراتيجي بالنسبة الى معارك “حزب الله” مع الثوّار في الداخل السوري.

النازحين السوريين في جنوب لبنان

وفيما يشبه إنقلاب “حزب الله” على اتفاق “وفيق صفا” مع الوزير”المشنوق” في ذلك الإجتماع الربيعي الذي عُقد في وزارة الداخلية ، والذي فسّره البعض بأنه تنازلٌ من جانب السلطة الشرعية عن مسؤولياتها تجاه مواطنيها وحدودها، لمصلحة سلطةٍ أخرى غير شرعية – تمّت عملية إجلاء أهل الطفيل قسراً في ٢١ تموز ٢٠١٤، فإنتقل بعضٌ من الأهالي إلى بلدة “عرسال” حيث أقاموا في خيمٍ مجاورةٍ لخيم النازحين السوريين، فيما توجّه البعض الأخر الى البقاع وبيروت. وهكذا أصبحوا مهجّرين في وطنهم، يتسول البعض منهم في الشوارع ليحصل على قوته اليومي، أو يعتاشون على بعض المساعدات البسيطة والإعانات الخجولة التي تصلهم من بعض الجمعيات الخيرية اللبنانية، بعدما حُرموا – بذريعة انهم لبنانيون – من الاستفادة من المساعدات الكبيرة التي وصلت الى النازحين السوريين في عرسال، من قِبل منظّمات وهيئات إغاثية دولية. وهكذا فرّ أهالي الطفيل من الموت السريع بالقصف المدفعي، الى الموت البطيء بالجوع والبرد والتشرّد والشعور بالذلّ والحسرة.

من الغريب حقّاً، أن تكون المرة الأولى التي تتدخل فيها الدولةُ اللبنانية في شأنٍ من شؤون قرية الطفيل المعزولة والمنسيّة، هي المرة نفسها التي تظهر فيها دولةً ضعيفةً مغلوباً على أمرها، والتي يُتخذ فيها قرار بتنفيذ خطة “ترانسفير” أبنائها، وتحويلهم الى لاجئين مشتّتين ومهجّرين منسيين داخل وطنهم!

اقرأ أيضاً: قراءة في الدستور الإيراني (1): تكريسُ السلطة المطلقة للوليّ الفقيه

أهالى الطفيل الذين سقطت مأساتهم من ذاكرة اللبنانيين، والذين دفعوا نفس الضريبة التي دفعها أهالي القرى السورية المجاورة لهم، ما زالوا يطالبون بحقّ العودة الى قريتهم المحتلّة. وغداً، من المؤكد انّ هؤلاء الفلاحين سوف يعودون الى أرضهم ومنازلهم وثلجهم الأبيض و”الصوبيا” التي كانت تدفىء شتاءهم القارس، والى حقولهم وشجرهم كي يجنوا مواسم الكرز؛ وسوف يستذكرون في ليالي سمرهم “توأمة” الجرح والنزف والقهر والظلم مع إخوانهم وجيرانهم السوريين. ولكن ما ليس مؤكداً هو أن يتحقق أكبر أحلامهم بتعبيد طريقٍ يعيدهم الى حضن الجغرافيا اللبنانية، ويربطهم بوطنٍ كان قد أنكرهم ونبذهم في وقت السلم، وتخلّى عنهم للآخرين كي يقرروا مصيرهم، وتركهم نهباً للقتل والجوع والنزوح في وقت الحرب. فهل تلتئم جروح هُويّتهم الممزقّة، وإنتمائهم المشروخ؟

السابق
سامنتا باور.. المناصرة للثورة السورية خارج الامم المتحدة
التالي
شمس الدين: للمجلس الشيعي أن ينظم الأوقاف لا أن يصادرها وينتزع ملكيتها