فنون تحنيط بشار الأسد

مدرسة الإعلام الممانع لا زالت تخرّج أبهى النصوص. ما يكتبه ويذيعه، بعد سقوط داريا، يستحق أن ينال جائزة التحنيط السياسي. الخلفية المباشرة هي سقوط داريا بعد تدمير تسعين بالمئة منها، وبعد حصارها أربع سنوات، وتفريغها تماماً من سكانها. والخلاصة التي يسرع إليها، هي، كما العادة، ان الثورة انتهت وان الكلام عن الإصلاح والديموقراطية في سوريا ما عاد له معنى.

انتهى الموضوع عند هذا الاعلام، وعاد بشار الأسد رافعاً رأسه، واثقاً من دوره وحجمه، يستقبل أعتى أعدائه السابقين، ليعلمهم، هو الخبير بكل شيء، كيفية محاربة الإرهاب، بعدما برع في كيفية توليده… ثم يسرد تاريخ العلاقة بين بشار من جهة وأميركا وإسرائيل من جهة أخرى، ليقول لنا ان بشار أراد، مع العظماء، السلام والندّية. ولكن الطرفين أصرا على تحالفهما، فوقف ضدهما، واندلعت “الحرب”، أي الثورة. يقولها بشيء من الخبث انه بعدما هدد بشار إسرائيل قبل عام من اندلاع الثورة، غرقت سوريا في حربها… يريد أن يلفّ ويدور، ولا يقول الأشياء إلا بالايحاء، لمن يريد أن يفهم:ان اسرائيل هي التي اشعلت الثورة السورية. لماذا لا يقولها صراحة؟ لماذا يرقص حولها؟ ربما لسخافة وضوحها…

المهم، ان إعلامنا هذا، يريد ان يبدو صائبا، فيمارس “النقد الذاتي”؛ ماذا يقول في هذه الممارسة الذهنية الراقية؟ “يعترف” بأن النظام الذي يجلس على كرسيه الأعلى بشار الأسد، هو نظام صاحب قبضة أمنية، فيه فساد ورشوة، وطبقة أثرت على حساب الشعب. أي انه مثله مثل الأنظمة “العادية” في العالم. لا يختلف عنها بشيء. وهو على كل حال منتصر: النظام انتصر، وسوريا عادت كما كانت، بلا مطالب بالإصلاح والديموقراطية، والعالم كله يوجه نظره نحو بشار، صاحب القبضة الإقليمية، الحليف الندّي لروسيا وايران و”حزب الله”، محور المقاومة، الذي هزّته اسرائيل بفتنها المتواصلة، فأشعلت الحرب ضده. وهو الآن خرج منتصراً على أعدائه، وما عليه في هذه اللحظة المجيدة سوى ترسيخ هذه الإنتصارات، وعدم إنتظار الإدارة الأميركية المقبلة، فيكون شعار المرحلة لهذا الإعلام “أن يسرع وتيرة الحرب”.

اقرأ أيضاً : «جنوبية» تكشف تفاصيل معركة الجيش السوري وحزب الله في ريف حلب

توقف الزمن عند الإعلام الممانع. لذلك ما زال ينظر إلى بشار بصفته رئيسا “طبيعيا”، وإلى سوريا بصفتها دولة قائمة بذاتها كما بالأمس، ذات سيادة واستقلال وثقل إقليمي لا يضاهى. وبأن بشار هذا ضحية مواجهته للإمبريالية والصهيونية، ولكنه “صمد… فانتصر”. والحال انه قبل أن ينكبّ إعلامنا هذا على تحنيط محبوبه، كان هذا الأخير عرْضة لعشرات من الدعاوى والتقارير التي تصف براميله ومعتقلاته وصواريخه وطائراته وحصاراته ومجازره… وتتهمه بارتكاب جرائم غير عادية، جرائم ضد الانسانية. آخر تقرير للأمم المتحدة، الموثّق توثيقا شديداً، يؤكد ان بشار استخدم السلاح الكيميائي ضد مواطنيه، وبأن المرة الوحيدة التي استخدم فيها المسلحون هذا السلاح، كان على يد “داعش” التي ضربت به ثوار قرية مارع الواقعة بين حلب والحدود التركية؛ هذا التقرير، سوف تشكّك به روسيا حليفة بشار في محور المقاومة.

اقرأ أيضأ : هكذا ستكون نهاية بشار الأسد…

“النقد الذاتي البناء”، الذي يوجهه الإعلام الممانع الى نظام بشار، يبدو مثل شكوى صبي ساذج، ضحية مشاجرة، لم يدرك منها سوى كلمات رميت هنا وهناك.

مرة أخرى، تصيبك الدهشة من كل هذا العماء السياسي: يخرج بشار من عملية التحنيط، وكأنه فعلا صاحب قرار. صاحب سيادة على أرضه. عندما يقول “محور المقاومة”، يوحي لك بأن كل طرف من هذا المحور مجنّد ومسخّر للدفاع عن بشار ضد أميركا وإسرائيل. الحال الواقعي هو طبعا العكس: أطراف محور المقاومة يلعبون بذيلهم، يتشاورون مع أعدائهم من أتراك وأميركيين وأوروبيين والإسرائيليين، ينسقّون عملياتهم، يلعبون الكوميديا السوداء بالاستنكار والشجب والقلق، فيما أميركا وإسرائيل حريصتان على عدم سقوطه… ولكنهم جميعاً، ومن زمان، يتصرفون بسوريا كأنها رقعة شطرنج، لا محاور فيها ولا أحلاف، فقط مصالح أنانية، لا يدخل فيها بشار إلا كأداة، أو حجرة تُنقل من هنا إلى هناك أو تثبت، ولا مرة نهائيا، كل مرة بحسب تطور المصالح والإستراتيجيات. بشار لم يعد رئيساً ليقرر، وخير ما يفعله إعلامه انه يحنّطه يومياً، وإلا كان ذابَ خلال السنوات الأخيرة هذه، بين أصحاب الأدوار الكبيرة والمتوسطة.

عندما أقرأ لإعلام الممانعة، تصيبني الحيرة. لا أفهم تماما دوافع أصحابها، أو تركيبتهم، أو طموحاتهم: هل تنقصهم النزاهة الذهنية، أو الصدق؟ بحيث يتحول تحليل الوقائع معهم إلى شيء يشبه صناعة المومياء؟ أم أن لديهم قصوراً معرفياً؟ كأنهم في برج مرتفع، لا تصل إليهم الأخبار إلا عبر قناة “المنار”، أو “الميادين”، أو جريدة “تشرين”؟ أم إنهم ببساطة من صنف أولئك السينيكيين، الهازئين، العالمين بالفظائع، وغير المبالين بها؟ لتحجّر قلوبهم وفقر إحساسهم وخواء روحهم؟ لكثرة ما عاشروا رجالات البلاط ورئيسهم، عديمي الإنسانية، فأصبحوا منهم؟

( المدن ) 

السابق
قوى الامن: ضبط 1000 مخالفة سرعة زائدة امس
التالي
سلسلة جديدة من الزلازل ضربت جنوب غرب اليابان