هنا اسبرطة: كيف تؤسس المظلومية للفاشية

يميل اصحاب الطوية السليمة في العادة الى تأييد الضعيف والمظلوم في صراعه ضد الجبارين والطغاة. جملة من المحفزات الاخلاقية والعصبية تستنفر امام أي مشهد للاستغلال أوالجور وتدفع حاملها الى رد المعتدي عن عدوانه ونجدة الضحية.

التشخيص البسيط للموقف المساند للعدالة اعلاه لم تفت امكانات استغلاله فئات من السياسيين والسفسطائيين والمجرمين واللصوص على امتداد التاريخ البشري. بساطة الميل الانساني الى الحق والعدالة، اذا سلمنا به جدلا وأيّدنا فلاسفة “الطبيعة الخيّرة” للانسان، تترافق يدا بيد مع سهولة استغلال هذا الميل في خدمة مصالح وغايات وسياسات.

البساطة الشديدة لهذه الآلية التي قد لا تعجب منظري السياسة الباحثين دائما عن “الأعمق” وعما وراء الكواليس وعن المؤثرات غير المظورة وغير المُدركة، تمتلك حضورا ساطعا في السياسة الحالية وفي التاريخ سواء بسواء. ثمة عدو ذو قوة خرافية يهدد الجماعة الضعيفة ويسعى الى تدميرها بوسائل مباشرة كالاجتياح العسكري او الافناء في معسكرات الاعتقال او القتل الأعمى، او وسائل غير مباشرة كالهجرة والسيطرة الاقتصادية والتطبيع الثقافي والإفقار.

لا تخلو حملة انتخابية اليوم من اللجوء الى هذه الادوات ولا يتورع السياسيون الشعبويون من بوريس جونسون رئيس بلدية لندن السابق والمشارك في قيادة موجة الذعر والتلفيق التي ادت الى تصويت البريطانيين الى جانب الخروج من الاتحاد الاوروبي، وصولا الى حسن نصر الله الذي يروج لمعارك استراتيجية حاسمة لا تفتأ تبتعد عن الحدود اللبنانية وعن المصالح المباشرة لمواطني الجمهورية، مرورا بدونالد ترامب المهول بخطر المهاجرين المكسيكيين والمواطنين الاميركيين المسلمين والمساند “لاستقلال” بريطانيا عن اوروبا.

في مقالة واسعة الانتشار  وضع فيها 14 تحديدا للفاشية، يرى الكاتب الراحل امبرتو ايكو ان على التابعين ان يشعروا بالذل أمام قوة وثروة اعدائهم. لكن في الوقت ذاته عليهم ان يقتنعوا بقدرتهم على الانتصار على الاعداء. ناهيك عن الشعور بالاحباط الاجتماعي وباضطراب في الهوية الوطنية او القومية.

نسمع ونقرأ يوميا التزام سياسيي التحريض والتخويف بهذه التعريفات. هناك دائما خطر محدق بالجماعة، حتى لو كانت هذه هي الحزب الجمهوري الاميركي وناخبيه. فنبذ العقلانية والتفكير النقدي التحليلي من السمات التي يشير ايضا اليها ايكو في مقالته المذكورة.

إقرأ ايضاً: الشيعة: طائفة منتهية الصلاحية

هناك تبسيط لا يقل شعبوية في تعريف الضعيف غالبا ما يلجأ الى معطيات العدد والقوة المسلحة ونسبة قدرات خفية الى الخصم الشرير. فالضعيف حتى لو كان اقل قوة من عدوه، الا انه ليس في منأى عن احتضان بذور الفاشية والحكم الشمولي القابل للتحول الى توتاليتارية ناجزة على الطريقة النازية او الستالينية. الضعف والقوة لا يرسمان الخط الفاصل بين الحق والباطل، خلافا لما يود الاعتقاد عدد من الباحثين المعاصرين. النازيون الالمان اسبغوا القوة على اعدائهم الداخليين اولا، اليهود والشيوعيين. اما المشروع الصهيوني في فلسطين فكانت احدى دعائم دعايته الناجحة الترويج لتقدمية وهشاشة مستوطنات اليشوف امام جبروت وتخلف الدول العربية القريبة والساعية الى تدمير برعم التقدم والحداثة (اسرائيل) في الشرق.

في لبنان، لا يستطيع حزب الله على سبيل المثال الاعتراف بقوته وتفوقه على خصومه مجتمعين. فهو نتاج فكرة المظلومية التاريخية لطائفة تعرضت الى اضطهاد مشهود. عليه ان يجد طريقة للبقاء في صف الضعفاء المضطهدين على الرغم من خوضه حربا تمتد من حلب الى اليمن. كيف يصح الجمع بين هاتين المهمتين او الصفتين: الاستضعاف والقتال على جبهات شاسعة في حروب اهلية ومذهبية؟ اسباغ السمات الملحمية على المعارك من جهة ووصف العدو بما يزيد كثيرا عن حقيقته وواقعه من جهة ثانية يؤديان الدور المطلوب في حل هذا التناقض.

في المقابل، تتخذ “داعش” مكان الشريك في رقصة الموت هذه. فالعالم الذي يمثله التحالف الغربي والروس والشيعة المحليين و”النظام النصيري” و”الصحوات” يتكالب على الخلافة التي تحمل كل الخير في ثناياها للمسلمين الحقيقيين. وما على هؤلاء الا نصرة الخليفة المحجوب ومبايعته في مساره الانتحاري نحو عصر ذهبي اسلامي لم يكن له مكان على ارض الواقع في يوم من الايام.

إقرأ أيضاً: عنصريتنا تطغى… وأبطالها ناشطون مدنيون!

في فيلم “300”، يرد الملك ليونيدس على المبعوث الفارسي الذي جاء حاملا عرضا مجدولا من ترغيب بالخضوع وترهيب من مواجهة الامبراطورية الفارسية العاتية، بركله (المبعوث) الى حفرة عميقة صارخا في وجهه “هنا اسبرطة!”. اسبرطة الاضعف بما لا يقاس من الامبراطورية الشرقية الغازية لكنها المالكة للتفوق الاخلاقي و”للقيادة” الكارزمية المصرة على الدفاع عن البلد حتى لو خذله مجلس الشيوخ المرتشي والفاسد. الحرس الشخصي للملك، اي الجنود الثلاثمئة الذين يشير عنوان الفيلم اليهم هم “الطليعة” التي تستطيع ان تسجل الموقف السليم سياسيا واخلاقيا امام التاريخ حتى لو انتهت المعركة بمقتل الملك وجنوده. الرسالة الواضحة التي يحملها الفيلم (الذي عكس اجواء ما بعد احداث 11 ايلول 2001 وصعود مشاعر العداء لكل ما هو مختلف) لا تقول شيئا غير تمجيد القائد الكاريزمي الذي يدافع عن جماعته ويدرك مصالحها اكثر منها ويستطيع فهم الابعاد الحقيقية للتهديد الخارجي حتى لو افضت المواجهة الى مصرعه… واستعباد الجماعة.

(حدثنا غودو)

السابق
اعتقالات عشوائية بالجملة في صفوف اللاجئين السوريين بلبنان
التالي
رسالة من قائد سابق في الحرس الثوري الى السيد حسن نصرالله