لم يكن نقولا شماس قديماً حينما تحدث عن «أبو رخّوصة» لقد أحيا كلمة مندثرة لكن من قال إنها منسية، من قال إن العقل الذي اخترعها ليس هو الآن. ماذا يحدث حينما ينتقل أناس في لمحة من الزمن من وضع عادي إلى وضع خيالي. من عيش يتساوى فيه المرء مع نفسه إلى وضع يغدو فيه في الغيم. من حياة نشتري فيها يوماً بيوم إلى حياة نحلّق فيها فوق الزمن، وأخيراً ماذا يحدث حين لا فسحة بين أن يكون المرء أبو رخّوصة وبين أن يكون مليارديراً. لم يقل نقولا شماس أين نضع النفايات، في خانة أبو رخّوصة أم في خانة من ينتفعون من النفايات. في خانة النفايات أم خانة أمراء النفايات الذين هم أيضاً أمراء الحرب، أمراء الطوائف. أبو رخّوصة، أليس هو الإنسان العادي الإنسان البسيط. الإنسان الذي هو أحياناً وقود الأحزاب ووقود الطوائف، الإنسان البسيط الذي طالما تغنت الأشعار وتغنت الأزجال والأغاني به. امتدحته غالباً لأنه لا يحتد ولا يهاجم ولا يحقد ولا يحتج. إنه فقط يبتسم لكل شيء، ويمنح قلبه لكل شيء. لا يمانع في أن يقدم جسده أيضاً.
ابو طيبة
إنه أبو طيبة على وزن أبو رخّوصة، أبو مسامحة وأبو مسرة، وأبو مواصلة. باختصار هو سعيد لأنه يجد خبزاً وجبناً وماءً وعنباً لطعامه ولأطفاله، وإن لم يجد فهو أيضاً سعيد لأن قلبه كبير ولأن الحاجة تجعله أكثر حكمة وأكثر رقة وأطهر وجداناً. وبالطبع هو يفرح كثيراً بأبراج المدينة، لأنه يحب الأشياء العالية ولأنه لا يكره من يقيمون في الأبراج ولا يكره أحداً من أي صنف، وبالطبع لا يسأل عن السبب ولا المسبب، بالطبع لا يسأل على الإطلاق ولا حاجة لأن يسأل، فهو أبو رخّوصة الطيب الذي لا يصدع رأسه بالأسئلة ويفضل عليها الأغاني والأزجال والحكايا. أبو رخّوصة هو الفولكلوري أو هو الفولكلور نفسه، إنه إنسان يتحول إلى قافية وإلى ردة وإلى خطوة، إنسان لا يصعّب ولا يعقّد ما دامت الأشياء تتحول في رأسه وقلبه إلى إيقاعات وألحان وهتافات.
«أبو رخّوصة» هو الجندي وهو الفلاح وهو الموظف ذو الدرجة الرابعة والسادسة، وهو صاحب الدكان وهو الشاعر الشعبي وهو أيضاً أكثر من ذلك، فقد يكون الضابط والموظف ذا الدرجة الثالثة وصاحب المحل أو المحال كما يسمى عادة وهو الخطيب والعقائدي والرثّاء والمدّاح وممثل الدرجة الخامسة، مغني الدرجة نفسها والمثقف المستأجر والمفكر بالأجرة أيضاً وللكادر الحزبي.. لا سبب للإطالة فلكل من هؤلاء مثاله، ومثاله بالطبع ليس سوى الامتثال والقبول والطيبة والمباركة والمسامرة، إن لم يكن المثال في النهاية هو الخسارة من غير تذمر والفشل من غير ضغينة، والنبذ من غير ما احتجاج، والحاجة من غير من حسد، والجود الذي أقله وأكثره، الجود بالنفس، والتضحية التي تشمل القلب والجسد والنفس والروح.
البساطة التي تصبح غفلة
لنقل إن الجندي مطالب بأن يستشهد، وكذلك المناضل الذي يخدم في جيش الحزب وكتائبه. الجندي للاستشهاد والفلاح مطالب بأن يعرى ويحفى على أن يكون مخلصاً لعريه وحفائه، وعلى أن يبيع نفسه وجسده وروحه بحفنة من التراب الذي تقدس بما لا نعرفه. ما لم يعد تراباً فحسب بل هو مثال الأقدس والموت في سبيله مكرمة ومكافأة. لنقل إن الكادر الحزبي مثله مثل الجندي وهو في الحقيقة جندي على نحو ما، دمه بالطبع ليس ملكه بل هو في رصيد حزبه، وإذا طلب أعطاه غير آبه ولا شاك فهذا منذور للأمة جارٍ في سيلها. أما صاحب الدكان فمثله الأعلى أن يبيع من قلبه ومن جسده ومن عرقه ومن نبضاته وإلا لم يتم بيع ولم يتم إتجار، والدكان بصغره بالطبع كما أن البيت بضيقه. فهو في صغره وضيقه ملهم أكثر وعائلي أكثر وأقرب للشعب، الذي ننسى أحياناً أنه المارة أنفسهم، وأنه المشترون ذاتهم وأنه الذين يملأون الدنيا بصاقاً ونفايات، لكنه الشعب، حبه من الله وصونه من الله وكلامه من الله فلا تعجب إن كانت الحقيقة معلقة بهؤلاء المارة، وإذا كانت موقوفة على البساطة التي قد تصبح غفلة، وإذا كانت مرهونة بالغفلة التي تصبح بساطة، وإذا كانت موجودة بقدر ما يكون التراص والتدافع والتزاحم، وبقدر ما ينزف العرق وينزف الدم وينزف الأنف، وبقدر ما تكون الكتلة متخشبة ناصته.
نقاوة بلا ثمن
المارة والسابلة والحشد وكل هؤلاء الذين نظمنا فيهم الأناشيد والأغاني والمدائح، واعتبرناهم الطهارة التي بلا سعر والنقاوة التي بلا ثمن، والجود بالعرق والدم وبذل النفس والتضحية. ملائكتنا هؤلاء ومثلنا بل هيكل فولكلورنا، بل فولكلورنا كله. هؤلاء الجندي والسمان وصاحب الدكان والخياطة والفلاح والجوّاب، الذين انعقدت حولهم الأوبريتات وكرَّمهم الرحابنة وغنَّاهم وديع الصافي وكتبت أسماءهم فيروز على الحور والشجر العتيق، وعمرت بهم موسوعات الضيع وما أكثرها، واستمروا طوال عهود وطننا المفقود أو الذي على وشك أن يفقد. يسميهم نقولا شماس أبو «رخّوصة»، أي أنه ينكر فولكلوراً عريضاً وتراثاً سامياً ويهزأ من أدب غابر ويسخر من بلاغة كاملة نشأت وترعرعت حولهم. يقول شماس بالتأكيد: سحقاً للأغاني وسحقاً للأعراف وسحقاً للأدب التراثي وسحقاً للفولكلور، فليس في ذلك كله إذا نحن نزعنا عنه أسماله، ليس في ذلك كله، إذا كشفناه ونفذنا إلى لبه، ليس فيه سوى «أبو رخّوصة».
هل تقولا شماس على حق؟
هل نقولا شماس على حق أم أن الأيام تغيرت، وسقط مثال الجندي والأرض والمناضل والوطن والشهيد ولم يبقَ من ذلك كله سوى حثالته، سوى تفله، سؤره كما يقول الجواهري. لم يبقَ من ذلك سوى بقاياه، وآن أن يأتي رجل ليست له صلة بالتراث ولا روح فولكلوري ويرشقه بالحرم الأكبر على حد قول مارون عبود وبالسخرية، فإن ذلك لا يعني إلا أن نقولا شماس يرشق بذلك الناس الذين تعودوا على أن يرضخوا، وعلى أن لا يتطلعوا إلى الأبراج وأن يبقى نظرهم في الأرض، وأن يخسروا يخسروا على الدوام، يعني ذلك سوى أن نقولا شماس يهين بهذا الكلام جيرانه وسائقه وخادمه والناس الذين ينحنون له كلما أبصرهم. «أبو رخّوصة» هذا الاسم يغلي بالكره الطبقي، يغلي بالحقد الطبقي، أمر عجيب بالطبع فنقولا شماس يسبق هؤلاء المنحنين على يده وأمامه إلى الحقد عليهم، هل في ذلك أي عدل، أن يحقد عليهم لأنهم يأكلون أردأ مما يأكل ويلبسون أقبح مما يلبس ويسكنون في أدنى بكثير مما يسكن. لا نعرف سبب هذا الحقد الاستباقي. ألأنه رأى هؤلاء ينتشرون في باحته، ألأنه رآهم يلوثون جدران قصره، ألأنه رآهم حيث لا يحب أن يراهم، أمام متاجره وبين دوره.
حرب الطبقات
هل يكفي ذلك ليحمّي غريزته الطبقية، ثم لماذا لم يطرح هؤلاء أي شعار طبقي، لم يكسروا واجهة ولم ينهبوا متجراً. مجرد رؤيتهم، رؤيتهم في ساحته وفي منطقته كانت كافية ليستدعي نقولا الشماس «الغول الطبقي»، ليتهم الحراك بالشيوعية. مع ذلك يمكننا أن نشكر نقولا الشماس، إنه، من ناحية ما، عضو في الحراك. إذا كان الشبان قد بدأوا حراكهم ضد الطائفية فإن نقولا الشماس نقل المعركة إلى مكان آخر، لقد بدأ هو، على حسابه ومسؤوليته الشخصية، حرب الطبقات.
(السفير)