عن الفوضى الكيانيّة واستعصاء الحداثة

خالد غزال

لا يقع في باب المبالغة وصف ما يجري في المنطقة العربية بإنه سلسلة من الحروب الأهلية الدائرة راهناً في بعض الأقطار، والمتوقَّع لها أن تمتدّ إلى دوائر أخرى في المستقبل. تتّخذ هذه الحروب شكل نزاعات طائفية ومذهبية وعشائرية وإثنية، وكلّها عناصر كفيلة ببناء صروح كبيرة من الحقد والكراهية بين أبناء البلد الواحد، وهي جروح يصعب التئامها بسهولة، وخصوصاً بعد تبيان كم هي عميقة الجذور في الذهنية العربية وفي البنى المجتمعية. لعلّ أبرز النتائج، المباشرة وغير المباشرة لهذه الحروب، هو الفوضى الكيانية التي تهدّد كلّ بلد في كيانه ونظامه السياسي ونسيجه الاجتماعي.

بعيداً عن النظرة المؤامراتية التي تستسهل النخب العربية، ومعها الأنظمة السائدة، في تصوير الأحداث الجارية بأنّها من فعل الخارج المتآمر دوماً على الشعوب العربية، والهادف إلى منع تطوّرها، والساعي إلى نهب ثرواتها، فإن الرصد الحقيقي يجب أن ينصبّ على العوامل الداخلية والتناقضات البنيوية وتبيان أسباب العجز عن بناء كيانات متماسكة لا تنهار عند أيّ اهتزاز تواجهه سواء أكان داخلياً أم خارجياً. لا يعني ذلك أن الخارج بريء من التدخّل والفعل وتوجيه هذا الحدث أو ذاك، فالذاكرة العربية لم تُشفَ حتّى الآن من الآثار التدميرية لمرحلة استعمارية مرّت على العالم العربي، وأمعنت في نهب ثرواته وإيجاد ألغام داخله لعلّ أهمّها زرع المشروع الاستيطاني الصهيوني في المنطقة.

ما يدفع إلى التركيز على العناصر الداخلية في كونها أسباباً رئيسة للانهيارات البنيوية الجارية، أن معظم البلدان العربية قد نالت استقلالها منذ عقود، يمكن القول إنّها فترة زمنية كافية للتكوين الاجتماعي ولبناء أنظمة سياسية وبروز نخب ثقافية وسياسية، ممّا يشكّل عناصر التكوين الداخلي لكلّ بلد، ويؤمّن الاندماج الاجتماعي والوطني داخله، ويحدّ من التناقضات بين مجموعاته. وأيّ بحثٍ في الفوضى الكيانية الراهنة محكوم بأن يرصد العوامل الداخلية، مع التأكيد مجدّداً على أن الوضع الدولي وتشابك المصالح يجعل التدخّل في الأزمات من المسائل البديهية. هنا يقع فعل الخارج ودوره. لكن الخارج يتحدّد مدى فاعليّته بمقدار ما تتيح له الممرّات الداخلية لكلّ بلد مدى هذا التدخّل.

تأسّس معظم الدول العربية على قاعدة إعادة تركيب في أجزائها الجغرافية، سواء عبر إلحاق أراضٍ أو اقتطاعها، وتوليف كيانات، لم يكن قيامها بعيداً عن خدمة المصالح الجيواستراتيجية للمشروع الإمبريالي الهادف إلى السيطرة على المنطقة العربية واستغلال مواردها. في الوقت نفسه، تركّبت الكيانات العربية على قاعدة تغليب مجموعات طائفية على أخرى، وإعطاء مواقع لأقلّيات لم تكن تتناسب مع حجمها الديموغرافي، وحرمان أقلّيات أخرى من حقوقها السياسية والثقافية، ما جعل هذه الكيانات مليئة بألغام قابلة للانفجار لدى أيّ احتقان سياسي واجتماعي، كما جعلها عرضةً لتدخّل الخارج ضمن منطق حماية الأقلّيات. لا تقع المجتمعات العربية خارج منطق تكوّن الدول في كلّ مكان في العالم، حيث التنوّع والتعدّد والتناقض والصراع على المواقع بين المجموعات هو القانون الذي يحكم منطق قيام الدول وتكوّن كياناتها وأنظمتها السياسية. يُطرَح سؤالٌ هنا: لماذا بقيت هذه الألغام حيّة وجاهزة للانفجار في المجتمعات العربية، بينما تجاوزتها بلدان أخرى شبيهة أوضاعها بما هو سائد في العالم العربي؟

يشكّل قيام الدولة أحد الشروط الضرورية لانتظام المجتمع وتقدّمه. لكن هذا الدور يستوجب جملة عناصر تسيّج هذه الدولة وتسمح لها بممارسة مهامها. كما يُعتبر نشوء الدولة عنصراً من العناصر التي تؤشّر على دخول البلد في الحداثة. تتوطد سلطة الدولة بقيام مؤسّسات دستورية، ومنظومة أمنية، بصفتها عناصر لا بدّ منها. وتستكمل دورها بعملية تنمية شاملة تسمح بتحسين مستوى المعيشة للمواطن، وتحدّ من الفقر والبطالة، وتدفع بالقطاعات المنتِجة إلى الأمام عبر استغلال الثروات الموجودة. ويكتمل البناء من خلال تأمين الشروط السياسية التي تسمح بحلّ النزاعات بين المجموعات التي يتكوّن منها البلد بالتسويات المتتالية بما يراعي مصالح المجموعات جميعها من أقلّيات وأكثريات بعيداً عن تسلط واحدة على الأخرى. باختصار، إن مؤشّرات حداثة بلد هي مزيج من التنمية الاقتصادية الواسعة والتنمية البشرية المستدامة والحقّ في ممارسة العمل السياسي وإقامة الأحزاب وحرّية الإعلام والرأي وغيرها.. وهي عناصر تُحصِّن المجتمع من التشرذم وانفجار التناقضات التي تعتمل في داخله. فأين دولنا العربية من هذه العناصر؟

لا يمكن إنكار أن عدداً غير قليل من الدول العربية سعت إلى الدخول في عملية تحديث فعلية، وسعت إلى خططٍ تنموية لم تخلُ من الأهداف الوردية والطموحات المشروعة. والناظر إلى العالم العربي منذ فترة غير قصيرة لا تنقصه رؤية ما تحقّق من تحديثٍ في بناه التحتية ودخول التكنولوجيا الحديثة إلى مؤسّساته، وتحقيق حدٍّ كبير من التعليم والتواصل مع الغرب، وإقامة مشروعات صناعية أو تجارية، ثمّ بناء جيوش وتسليحها بأحدث الأنظمة التقنية.. لكن هذا النموّ التقني يصعب اعتباره حداثة بمعناها الاقتصادي والسياسي والثقافي، بل هو في حقيقته عملية تحديث، أخذت من الحداثة منظومتها التقنية، وأبعدت عنها الأساس الفكري والفلسفي والسياسي الذي كان وراء هذه التقنيات الحديثة. لكن الأسوأ في هذا المسار كان التراجع في منطق الدولة وشروط فعلها لمصلحة منطق السلطة.

ولئن كانت السلطة عنصراً أساسياً ومكوّناً في الدولة، فإن الذي حصل في معظم الأقطار العربية هو غلبة السلطة على الدولة. بنت النخب الحاكمة على امتداد سلطتها أجهزة أمنية ومخابراتية، كما بنت جيوشاً لحماية كيانها وتحرير الأراضي المحتلّة ومواجهة العدوّ الصهيوني. في البلدان الحديثة، تشكِّل هذه الأجهزة مؤسّساتٍ في خدمة الدولة والمواطنين وحماية مصالحهم، لكن هذه الأجهزة تحوّلت عندنا إلى دول قائمة بذاتها، وتقوم بمهامها على حساب مؤسّسات الدولة بل إنّها تُخضِع كلّ شيء إلى سلطتها. والقيام بهذا الدور يتطلّب سلطة استبدادية وقمعاً ممنهَجاً يُلغي أيّ معارضة سياسية أو مدنية قد تعيق هذا التسلّط، وتحصين هذا القمع بإيديولوجيا شمولية تؤمّن التوظيف السياسي والفكري للسلطة، وتُبرِّر عملية الاستبداد بغطاء فكري مناسب. هكذا بات الحاكم يختزل الدولة ومؤسّساتها، ومن أجل التحصّن بموقعه، كان لا بدّ له من الاحتماء بالعصبية التي ينتمي إليها. وعلى النمط نفسه سارت النخب الحاكمة، حيث بات استحضار العصبية عنصراً من مقوّمات سلطة هذا الموظّف أو ذاك، ممّا يعني أن تغييره ستكون له نتائج على العصبية التي ينتمي اليها. في ظلّ هذه العلاقات، سيكون من الطبيعي أن يُعتبَر مطلب تغيير الحاكم مدخلاً إلى حرب أهلية، لأن هذا التغيير سيمسّ بسلطة العصبية التي ينتمي إليها وبموقعها. وهكذا..

خالد غزال

لم تستطع الدول العربية تجاوز عملية تحديث- عاد هو نفسه يراوح أمام العجز عن تطوير مقومّاته-، وما تحقّق من حداثة لم يكن سوى قشرة سرعان ما تلاشت عندما دخلت المجتمعات العربية في مرحلة انفجار بناها تحت وطأة الاحتقان المديد. حجزت هذه الأنظمة عملية التطوّر، فعادت المجتمعات تنتقم من هذا الحجز. أمّا صيغة الانتقام فتجلّت بهذه المشاهد التي تصفع المواطن صبحاً ومساءً بمناظر القتل والدمار، وبصعود الحركات الأصولية المتطرّفة وأفعالها البربرية في القتل والإعدامات والتهجير. لم تَسقط هذه الحركات من سماء صافية، فهذا التطرّف الأصولي هو الابن الشرعي لأنظمة الاستبداد العربية ولاستعصاء المجتمعات العربية عن الدخول في الحداثة وتجاوز بنى التخلّف المهيمِنة.

إلى أين؟ سؤال الأسئلة لدى كلّ مواطن عربي. من شبه المستحيلات إعطاء جواب عن زمن الخلاص من هذه الحروب. ما هو في متناول التوقّعات، أن المنطقة مستمرّة في انهيار بناها المجتمعية والتعبير عن ذلك بنزاعات أهلية، وأن الفوضى الكيانية تبدو الممرّ الإجباري الذي سيحكم مسار المجتمعات العربية لأمد غير معروف.

(مؤسسة الفكر العربي – نشرة افق)

 

 

 

السابق
من هاشم السلمان إلى رياض الصلح وصور والنبطية: الإعتراض الشيعي يتصاعد
التالي
مراقبو وزارة الصحة أقفلوا سناك نصار في صيدا