خفايا معركة مخيّم اليرموك

كشفَت مصادر فلسطينية لـ«الجمهورية» أنّ وفداً أمنياً فلسطينياً برئاسة نائب مدير المخابرات في السلطة الفلسطينية العميد عزام زكارني وصلَ إلى دمشق نهاية الشهر الماضي بناءً على توجيهات الرئيس محمود عباس، وبحث مع المسؤولين السوريين خطة لتثبيت الأمن داخل مخيّم اليرموك تشمل تسوية أوضاع المسلحين الفلسطينيين في داخله وإعادة المهجّرين إليه.

وكان يفترض أن تبدأ الخطوات العملية لتنفيذ هذه الإجراءات خلال هذا الشهر، لكنّ سيطرة «داعش» على المخيّم قبل أيام عطّلت كلّ هذا السياق الانفراجي.

وبحسَب هذه المصادر، فإنّ كتيبة «أكناف بيت المقدس» المحسوبة على «حماس» كانت وافقَت ضمن مسعى زكارني على إلقاء سلاحها شرط عدم دخول الجيش السوري إلى المخيم، بحيث يصبح منطقةً منزوعة السلاح من الطرَفين، ويُصار إلى تشكيل لجان مشتركة من «الأكناف» والفصائل الفلسطينية لحماية حدود مخيّم اليرموك.

وزارَ وفد سياسي فلسطيني برئاسة عضو اللجنة التنفيذية في منظّمة التحرير الفسطينية أحمد مجدلاني دمشق الأربعاء الماضي، في محاولةٍ لاستدراك الموقف داخل المخيّم، والسير بالتسوية التي حُدِدت خطوطها العامّة خلال زيارة زكارني.

ولكنّ دمشق لم تنَم طوال ليل يوم وصول هذا الوفد نتيجة تردّد أصداء الانفجارات القويّة في المخيّم، ما أكّدَ أنّ التسوية في اليرموك أصبحَت بعيدة المنال وأنّ المدخل الإجباري لإعادة إحيائها هو إنهاء حالة «داعش» عسكرياً في المخيّم.

«داعش» واليرموك

خلال الأسبوع الأخير حصَلت تغيّرات ميدانية انقلابية في المخيّم تمثّلَ أبرزُها في أنّه حتى ما قبلَ سيطرة «داعش» عليه، كان بكامله خاضعاً عسكرياً لتحالف «جبهة النصرة» و»أكناف بيت المقدس» المحسوبين على «حماس»، فيما كان الجيش السوري يحاصره من جهته الشمالية .

أمّا لجان الحماية الفلسطينية الموالية للنظام السوري فكانت تتمركز في منطقة شمالية نائية من المخيّم حيث تقع المدرسة التي تستعملها «الأنروا» في تقديم مساعداتها الإغاثية لمن تبقّى من لاجئيه الفلسطينيين.

وحتى ما قبل مطلع الشهر الجاري لم يكن لـ«داعش» أيّ وجود داخل كلّ مشهَد مخيّم اليرموك العسكري. فمجموعاتها كانت تتمركز في حيّ الحجر الأسود الذي يفصل بينه وبين مخيّم اليرموك شارع الثلاثين الذي هو مدخل دمشق – العاصمة الى المخيّم.

ويعود وجود «داعش» في حيّ الحجر الأسود، لأشهرعدّة فقط. وقبل ذلك كان «الجيش السوري الحر» بقيادة «ابو صياح فراق» مسيطراً عليه، وهذا الأخير من بلدة يلدا القريبة من مخيّم اليرموك، وكان أعلنَ لدى بدء غارات طائرات التحالف الدولي على «داعش» في سوريا، مبايعتَه لأبي بكر البغدادي، وأعلنَ أنّه في صَدد إقامة إمارة إسلامية في حيّ الحجر الأسود الذي يقطنه بغالبيته نازحون سوريّون من الجولان لديهم خلفية ناقمة على النظام السوري لأسباب اجتماعية.

وفي هذه الأثناء حصلت حادثة غامضة في اليرموك كانت بمثابة الشرارة الظاهرة لاندلاع المعارك الراهنة فيه، إذ أقدمَ مسلحون مجهولون – تقول «الأكناف» إنّهم من داعش- على قتل ناشط في مستشفى فلسطين وهو يحيى حوراني القريب من «حماس». وردّت الأكناف بعد ساعات من دفنِ «شهيدها « بمهاجمة حيّ الحجر الأسود وأسرَت عناصر من «داعش» وأعدمَتهم .

وتلا ذلك هجوم محدود لـ«داعش» على مناطق الأكناف في المخيّم، ثمّ في الصباح التالي شنّت هجوماً شاملاً أدّى إلى سيطرتها على معظم مناطق الأكناف في المخيّم، وحاصرَت عناصرها في منطقة صغيرة تسمّى «حارات شارع لوبيا» .

ومع هذا التطوّر وجدَت الأكناف نفسَها ميدانياً محصورةً بين فكَّي عدوَّين: «داعش» من جهة، و»اللجان الشعبية» الحليفة للنظام من جهة ثانية. وهذا ما قادَها إلى الاتصال بقادة لجان الفصائل الفلسطينية لإبلاغهم أنّها مستعدّة للانضمام إلى التحالف التابع للنظام السوري في المخيّم ضد «داعش».

وفي ضوء هذه التطوّرات بات واضحاً أنّ سيطرة «داعش» على المخيّم، حصَلت بفعل تواطؤ «جبهة النصرة» معها وانقلابها على حليفتها «الأكناف» التي كانت تتقاسَم معها السيطرة على المخيّم كلّه.

وهناك تفسيران مطروحان لسبب خيانة «النصرة» لـ»الأكناف» وفتح مناطقها في المخيّم أمام «داعش» لتهاجم منها معظم مناطق «الأكناف» فيه وتسيطر عليها: الأوّل، أنّ متزَعّم «النصرة» في المخيّم وكِنيتُه «أبو جعفر» قرّرَ مبايعة البغدادي والانحياز إليه في إطار نزاعه على الأحقّية في الخلافة، مع الجولاني .

أمّا السبب الثاني وهو الأكثر اعتماداً، فهو أنّ «النصرة» أرادت تخريبَ مسعى زكارني الهادف الى تحييد المخيّم في الحرب بين النظام والمعارضة، حتى لو اضطرّها ذلك الى القتال موَقّتاً في خندق واحد مع «داعش» ومساكنتِها في اليرموك، على الرغم من أنّ هذا الأمر غير مسبوق في تاريخ العلاقة بين التنظيمين اللدودين منذ ظهورهما.

توزّع القوى داخل المخيّم

تقدّر المصادر العسكرية عديدَ القوّة «الداعشية» التي دخلت إلى المخيّم بمئتين إلى ثلاثماية عنصر، فيما عديد «أكناف بيت المقدس» المتمركزة فيه تقارِب الخمسمئة مقاتل يقودُهم كلّ مِن نضال أبو العلا ( لقبه «أبو همّام» ) ومحمد الزعموط ( لقبُه «أبو أحمد» المشير ).

وأبو همّام على صِلة قوية بزعيم «حماس» خالد مشعل، فقد عملَ مرافِقاً شخصياً له طوال فترة إقامتِه في دمشق ما بين تسعينات القرن الماضي وحتى العام 2011. أمّا الزعموط فهو وثيق الصِّلة بالقيادي البارز في «حماس» موسى مرزوق، وكان مرافقه الشخصي خلال وجوده في سوريا قبلَ انقطاع علاقته بها.

وإلى هذين الطرَفين، يوجد في المخيّم تنظيم «أحرار الشام»، وهو فصيل سَلفي قدّم نفسَه على أنّه خطّ ثالث بين «داعش» و»النصرة». وخلال الأيام الأولى من معارك اليرموك أعلنَ هذا التنظيم أنّه على الحياد، لكنّه عاد ليعلنَ صباح الأربعاء الماضي القتالَ إلى جانب «داعش»

أبعد من اليرموك

ووفقَ توَقّعات عسكرية مواكبة لما يحدث في اليرموك، فإنّ المعركة فيه لن تكونَ قصيرة، وسيخالطها كثير من مشاهد الكرّ والفَرّ بين طرَفيها، التي باتت سِمة معظم الجبهات الساخنة في سوريا.

وأسباب هذا التقدير عدّة، وأبرزُها وجود حماسة لدى النظام لحسمِ المعركة في المخيّم سريعاً، نظراً لخشيته من أنّ سيطرة «داعش» عليه تخفي وراءَها خطّتين خطيرتين: الأولى تسعى الى تهديد أمن العاصمة عبر التوغّل انطلاقاً من المخيّم في اتّجاه احياء لصيقة به وبالعاصمة (القاع و»الميدان» والزاهرة).

والثانية التوغّل من المخيّم في اتّجاه غرب شرق حيث توجَد ما يُعرف اصطلاحا بمناطق «المصالحات «( تتكوّن من بلدات سيدي مقداد والقدم والميدان وببيلا ويلدا وبيت سحم، ألخ…).

وخطورة هذه المنطقة أنّ السيطرة عليها تؤدّي إلى تهديد طريق المطار. وكان النظام نجَح قبل عامَين بإجراء مبادرات مصالحة في بلداتها، أسفرَت عن هدنة بين مسلّحيها والجيش وتحييدِها من النزاع . وهناك خشية الآن من أنّ «داعش» إذا توغّلت في «مناطق المصالحات» ستعيد الأمور فيها إلى المربّع الأوّل وسيفتح موضوع أمن طريق المطار مجدّداً.

وما يعزّز هذا التقدير هو أنّ البنيةَ المقاتلة لـ»داعش» في المخيم، تمتاز بأنّ نسبة الوجود الأجنبي بين عناصرها معدومة، وهي بكلّيتها تتكوّن من خليط سوري ـ فلسطيني، ما يجعل لديها قدرة على التعايش والتفاعل مع بيئات مناطق المصالحات التي تمَّ تحييد معارضتِها ولم تُنهَ كلّياً، ما يجعل عودتَها إلى النزاع أمراً ممكناً في ظلّ توازن قوى جديد يفرضه دخول «داعش» على خط هذا النزاع في تلك المنطقة.

(الجمهورية)

السابق
ربيع المخيمات.. وصحن الكبيس غير المطابق للمواصفات
التالي
إسرائيل لم تعد مهمة لأميركا