منذ عام أخذ رأسي ينفي شعري عنه، تماماً كرحلتي في الأماكن التي عشت فيها، تلك البلاد التي فشلت فحمّلتني معها فشلها، نفتني عنها، عائلتي، أرضٌ تلو الأخرى، مكانٌ تلو الآخر.
أيام قليلة قبل أن أودّع مكاناً آخر، ليصبح كسابقه من المدن المحرّم عليّ دخولها مجدداً، وكأنني أخلع بيدي عضواً من جسدي دون تخدير، أبقيه وأرحل..
الذاكرة الملعونة
في بداية تشرين الأول 2012 خرجت من دمشق، هذا كل ما أذكره، التاريخ، التاريخ فقط. لا أذكر الليلة السابقة للرحيل؛ حزم أمتعتي، وداع الأصدقاء، الطريق إلى بيروت. لا شيء. هل خرجت في الصباح أم في المساء؟ لا أذكر إن كنت قد ودعت أسرتي. لا أذكر أي شيء..
ذاكرتي تقوم بتغييب مستمر للأحداث. سأحاول مجدداً، سأحاول مجدداً.. لا شيء. الأيام الأخيرة في دمشق، اليوم الأخير في المدينة، وتفاصيل كثيرة ممّا قبل 2011..
الخوف من الانفصال هو قلقنا الأزلي، وما أن نتعرّض له حتى يقوم العقل بعملية الكف، وتتعطّل وظيفة الذاكرة في استرجاع ما يؤلمنا، لكن يتضح لاحقاً أن عملية الدفاع هذه ليست إلا عقاباً نفرضه على أنفسنا.
نحن أصحاب الذاكرة الملعونة، المهاجرون في بلادنا، المهاجرون خارج بلادنا، حاملو الذاكرة المؤقتة، المشاعر المؤقتة، الحاضر المؤقت، المستقبل المؤقت.
يبدو أنني حاولت عند وصولي إلى لبنان إجراء عملية قمع تامة لمشاعري المتعلقة بالحنين لدمشق. ربما كانت محاولة للاستمرار، إذ أن البدايات الجديدة المحمّلة بالحطام لا تحتمل الغرق في الأشواق المودية بصاحبها إلى قعر هوة الاكتئاب. الاكتئاب في زمننا هذا مجرد رفاهية.
لذا أظن أن الأنا الخاصة بي استشعرت إشارات الخوف والقلق، كبتت الشحنة النفسية التي تهددها، ليتجه القلق إلى مواضيع مختلفة. على سبيل المثال، كنت أعاني في صغري من رهاب الظلمة، لذا اعتدت أن أشعل ضوء غرفتي أثناء النوم، لكني تغلبت على هذا الأمر لاحقاً، إلا أنه بعد وصولي إلى بيروت بأيام قليلة تنبهت لعودة الرهاب الطفولي تجاه الظلمة، وكأن حالة القلق من الجديد التي حاولت كبتها عبر إخضاع نفسي للتكيّف أخذت بالظهور بهذا الشكل، عكساً نحو مراحل الطفولة.
يعيش السوريون يومياً حياة مليئة بالصراعات، بالألم، بالحزن والغضب، بالشعور بالذنب والفقدان.. ما يعرّضهم لصدمات متتالية، تولد لديهم ما يمكن تسميته بفقدان الذاكرة الانشقاقي!
نحن أصحاب الذاكرة الملعونة، المهاجرون في بلادنا، المهاجرون خارج بلادنا، حاملو الذاكرة المؤقتة، المشاعر المؤقتة، الحاضر المؤقت، المستقبل المؤقت.
الأماكن
إنه الليل. أركض مسرعةً، مسرعةً جداً. المكان يركض بي مسرعاً أيضاً، وكأني أضعت خارطة الوصول إلى منزلي كلياً. أدفع أحد الأبواب بقوة، وأخيراً وصلت. أدخل إلى المنزل، أنظر حولي ولا شيء يشبه منزلي بتاتاً. المكان مازال يركض بي. أسمع أصواتاً كثيرة في الغرفة المجاورة. من هؤلاء؟ أقترب أكثر، وأحدّق في الوجوه. أعرف معظم الزوار، وآخرين جدد لا أعرفهم. المكان يلهث بصوتٍ عالٍ، يفوق ضجيجه ثرثرة الموجودين. أدخل إلى غرفة أخرى، ثم الغرفة التالية، في التي تليها يتوقف قلبي نهائياً.. ما هذا المكان؟ الحدود بين مملكتي الأموات والأحياء؟!
بيروت.. مدينة العامين والأشهر القليلة. وصلت إلى المكان، هذا المكان الذي قطنه العديد من الأصدقاء والمعارف قبل وصولي إليه، لذا لم يخلُ تماماً من مشاعر الألفة. لكني كنت، كأي مهاجرٍ جديد، أركز على حلم العودة أكثر من أي شيء، مدركة ً تماماً أن الفراق عن الوطن والعائلة والأصدقاء مؤقت، ما خلق اضطراباً في مسألة الزمان والمكان.
يبدو أن المهاجرين، أي نحن، قد خضعنا في المرحلة الثانية لرد الفعل الدفاعي تجاه ماهو مجهول. يعني أننا قمنا بمحاولة تحويل المجهول إلى معروف؛ تشبيه شوارع بيروت بشوارع مدينتا الأصلية، البحث عن وجوه إليفة في وجوه الغرباء. ردود الفعل الدفاعية هذه تزداد قوة، وربط المعالم المتشابهة يقود إلى الإنكار، إنكار أننا نعيش الآن في بلد آخر. التكيّف على أساس الألفة.
كان الاندماج في لبنان بالنسبة للسوريين أقلّ صعوبة مما هو في الدول الأخرى، وذلك لأن الكثير من السوريين واللبنانين كانوا يزورون البلدين، والتاريخ المرتبط بهما سويةً، واللغة، ومرور الأصدقاء القدامى من سوريا وإليها، وأسباب عديدة أخرى..
بعد أشهر قليلة، أخذ رد الفعل الدفاعي عندي يزداد حدةً، ما أدخلني بشكل هوسي في عملية التكيف. المنزل، الأساس الأولي في عملية الاستقرار والتكيف.. تنقلت في منازل عدة إلى أن وجدت أخيراً المنزل الخاص بي. اخترته خالياً من الأثاث، وقمت بفرشه بما يشبهني في الحدود المادية الموجودة، كما درّبت نفسي على الذهاب إلى أماكن محددة؛ المقاهي، الشوارع، الخ..
خلال البحث عن المكان الخاص بي في هذه المدينة الجديدة، طوّرت علاقاتي مع المواطنين اللبنانين، وغرقت في محاولة فهم عاداتهم وطبيعتهم، وكذلك تاريخهم. اختلطت بهم أكثر، وأصبحت أتردد على الفعاليات الثقافية والاجتماعية، أرصدها وأناقشها معهم، كذلك السياسية والاقتصادية منها.
في الحيّ الذي أقطنه، حفظت وجوه البائعين والمتجولين، وخلقت علاقة ودية مع البائعة العجوز بجوار منزلي، والرجل العجوز الذي يجلس أمام محله الصغير طوال النهار.
لم يعد المكان غريباً، بل أليفاً جداً. تعرفت على معظم شوارع المدينة وخارجها. أصادف العديد من الأشخاص أثناء تجولي في المكان. ألقي التحية هناك وهناك. وجوه أليفة، أماكن أليفة.. هوس بحث المهاجر التعِب، المنهك، عن الألفة، هو مجهود مكثّف للبقاء..
الأغراض الشخصية
27 آذار 2015. أربعة أيام قبل أن أترك منزلي مجدداً. عليّ الآن أن أحزم أغراضي الشخصية. قررت أن أبدأ من غرفة الجلوس، وجدت نفسي أحمل أكياس نفايات فارغة وألقي فيها كل شيء تقريباً، إلا الأثاث.
ومن ثم إلى غرفة النوم. فتحت الجارور الذي يُفترض أنه يحوي أشيائي الشخصية، ووجدت فيه وثيقة السفر فقط. توجهت نحو ملابسي، الثياب الشتوية والثياب الصيفية، اختار منها ما يلزمني فقط، أو بالأحرى ما كنت أرتديه منها في الشهرين الأخيرين، وكذلك أحذيتي. وضعت كلّ شيء آخر في الأكياس السوداء.
هوس بحث المهاجر التعِب، المنهك، عن الألفة، هو مجهود مكثّف للبقاء..
أتجول في المنزل، وأبحث عن مقتنيات أرغب في أخذها معي. لم أجد شيئاً سوى كاميرتي وكمبيوتري الشخصي. اختار من الكتب التي لدي ثلاثة. لم اخترها بناءً على ارتباط ما، بل على أساس الوزن. وضعت كل شيء آخر في الصناديق والأكياس السوداء.
يبدو أني لم انتبه خلال بنائي لمكاني الخاص، أي منزلي، أنني تفاديت، دون وعي، الاحتفاظ بمقتنيات شخصية. إذاً، المنزل الذي ظننت أنه عنصر أساسي في عملية التكيف، لم يكن فعلياً كذلك..
المهاجرون، أي نحن، خلال السنوات الأربعة الماضية، لم نخسر بلدنا فقط، بل كذلك أجزاء منا. قبل مدة قصيرة، أرسلت لي والدتي رسالةً «ماما، كيف صار شكلك؟، بلشت انسى وجّك!!»، لتردفها برسالة تالية «ماما، لما تصيري بـ 30 ..». غاب عن والدتي أنني سأبلغ الثلاثين عاماً بعد شهور قليلة، وغاب عنها شكلي..
الانسلاخ
في 8 نيسان 2015، سأبدأ رحلة إجبارية جديدة إلى بلد أوروبي. في ذاك البلد الذي سأقصده أصدقاء كثر، معظمهم كانوا من قاطني لبنان الجدد. إذاً غالباً ما سيحمل المكان بعضاً من الألفة. لكنني أعلم تماماً أن عملية المشابهة لن تنفع هناك، كل شيء سيكون مختلفاً جداً، فهذه المرة سأغيب لمدة طويلة.
أترقب بفضول ردود فعلي النفسية القادمة، وشكل الحالة الدفاعية التي سأمارسها هناك. يُقال أن الخسارات الجديدة تفضي إلى تغيّرات تفجّر المرحلة الكامنة، وتدفع بالمشاعر القديمة المكبوتة للظهور، تلك المشاعر التي تشبه الأحاسيس الناتجة عن التخلي..
يبدو أنه حُكم علينا أن نكبر في أماكن عديدة، أن نتحدث لغة أخرى، وأن نرى الشوارع التي لا نعرف. حُكم علينا أن نشهد الموت بعيداً، أن نتابع حيوات أصحابنا وأهلنا من بعيد، أن نشاركهم أحزانهم وأفراحهم، قلقهم ومخاوفهم بعيداً. أن نعتاد على الشوق، على الخوف، على الغياب. أن نشهد الأحداث في وطننا من بعيد. أن تعتاد أجسادنا على العيش في بلاد لم نخترها بإرادة حرة.