«تانتْ إيفون» في السوبر ماركت

سوبرماركت

تدخل «تانتْ» إيفون إلى السوبر ماركت، تتجه مباشرة صوب قسم الخضار الطازجة، فيرتبك عاملو القسم، وكأن كابوسا حلّ عليهم: واحد يختبئ تحت رفوف الخضار، والآخر يخفي رأسه، والثالث يهرب، كلهم يرتعبون من «تانتْ» إيفون، لأن «عندها سنين من الخبرة». ما هي هذه الخبرة؟ معرفتها التامة بنوعية الخضار؛ تشمّها، تتأملها، تقيسها، تتنصّت الى طقّتها، تقارن بين درجات ألوانها. ومن أجل ذلك تنبش في سلال الخضار، ترمي خلف ظهرها ما لا يعجبها، تعبس بوجه العامل لو صادف مروره اثناء معاينتها خضارا لا ترضى عنها… باختصار، «تانتْ» إيفون هي نموذج المرأة صاحبة المعرفة والإرادة التي لا تقبل بأن يغشها تجار السوبر ماركت ببضاعتهم الملغومة، فتسخّر من أجل ذلك كل طاقتها المعرفية العريقة لتختار ما سوف يفيدها من طعام.

ولكن، نحن هنا أمام إعلان تجاري، والقصة لن تتوقف بالتأكيد عند هذا الحدّ؛ فـ»تانتْ» إيفون معرّضة، بعد كل هذا العمر من حسن الشراء، لدعاية محمومة تحرضها على التخلي عن معرفتها العريقة بالخضار والفواكه، والإرتماء في أحضان المنتج الجديد المعروض أمامها: انها خضار مثلجة، غير طازجة، ماركة «بلان سولاي» الفرنسية، والتي تعني بالعربية «الشمس المكتمل». الدعاية تحضّ «تانتْ» إيفون على ترك كل مهاراتها في اختيار الخضار المفيدة لها، وعلى وضع كل ثقتها في شركة سوف تصنع لها خضارا تتفوق على ما عرفته قبل ذلك في حياتها السالفة التي أمضتها، المسكينة، وهي تشم نكهاتها. «بلان سولاي» أراحتها من تلك المشقّة، وها هي تقدم لها الخضار المثلجة المعبأة في أكياس من النايلون بصفتها الإختيار الأفضل لمأكولاتها. وهي آتية من أين، تلك الخضار؟ من فرنسا، بلد يشحذ الشمس من أشعتها القليلة. ومقابل أي بلد؟ لبنان، حيث الشمس لا تغيب إلا برهة، لتعطي مجالاً للمطر. ينتهي الإعلان باستسلام «تانتْ» إيفون أمام إغراء «بلان سولاي»، تخطف كيساً منه خفية، لكن العدسة تلتقطها، لتقول لنا بأن «بلان سولاي» هي مستقبل «تانتْ» إيفون مع الخضار، «تانتْ» إيفون نفسها!

ليست كل الإعلانات التجارية الاستهلاكية على هذه الدرجة من الغلو في رغبتها بمحو ذاكرتنا في الشم والنظر والذوق، ذاكرة شهيتنا ولذتنا في الطعام؛ ليست كلها تخيلت قلب موضع الشمس عن جغرافياتها، لتنقلها، مثلاً، من لبنان إلى فرنسا. ولكن بالتأكيد، الغالبية العظمى من الإعلانات التجارية على هذه الدرجة من الكذب والخديعة، ومحورهما اقناعنا بأن الذي تروج له هذه الاعلانات، سوف يجعلنا بصحة أفضل، في درجة أعلى من «السعادة»، وذلك في حال قبلنا ان ننسى المذاق السابق لأطعمتنا، أن نضيع ذاكرتنا الذوقية. كل ما تروّج له هذه الإعلانات الخاصة بمعلبات، أو مستوعبات اللحوم أو الخضار، بالمياه الغازية، أو العصائر التي تصفها بـ»الطبيعية» أو «المنشطة»، بالمنكّهات والمكعبات المطيّبة للطبخ، برقائق البطاط المقلية على أنواعها، بألواح الشوكولاتة… كلها والكثير من شبيهاتها، التي تتعلق بطعامنا، كل الإعلانات الخاصة بها، لا ترمي إلا لهدف واحد: ان نُدفع دفعا، مسلوبي الإرادة، فاقدي البصيرة، نحو شراء واحدة أو أكثر من هذه المنتجات، لكي نشعر بالرضا والأمان؛ وإلا كنا من صنف المحرومين.

الآن، انظر ماذا يأكل كبار الملياردريين المشهورين، خيرة المجتمع المعولم؟

مارك زوكربرغ، مؤسس الفايسبوك، ومنذ العام 2011، الذي شهد صعود ثروته قفزة هائلة، صار نباتيا، لا يتناول غير الخضار والفواكه الطازجة. إذ يقول: «اعتقد بأن الكثير من الناس ينسون بأنهم يأكلون كائنا حيا بعد قتله. وهدفي هو أن لا أنسى هذا الأمر». ريتشارد برانسون، مدير مؤسسة «فيرجن»، يشارك في احتفالات تكريمه التي تزينها الولائم العارمة، ولكنه لا يتناول منها شيئا، مكتفيا بما أكله في مسكنه من خضار وفواكه، دائما طازجة. اللورد بامفورد، المعروف بجمعه لكل موديلات سيارات الفيراري، يقول عن نفسه انه، يأكل مثل «الأرانب». أكبر مليارديريي بريطانيا، سري هندوجا، الهندي الأصل، الذي لا يشرب غير الشاي ولا يأكل غير الخضار، يجلب معه طعامه في علبة «تابروير» عندما يكون مدعوا من قبل الملكة اليزابيث في قصر بكنغهام. ومؤسسو «غوغل»، لاري باتج وسيرغي برين، فرضا على موظفيهم ان لا يأكلوا الا طعاما عضوياً حيث لا مبيدات واضافات كيميائية من أي نوع، الخ.

اللائحة تطول، ولكن السؤال الذي تطرحه هذه العادات الجديدة في الطعام لدى «النخبة» هو عن السبب الذي يدفعها الى نوعية جديدة منه، بتقاليد غير مألوفة عند الأثرياء، عكس ما عُرف عنهم، أصحاب الولائم العارمة والمتنوعة، أصحاب الاختصاص في الأمراض الناجمة عن إفراطهم بتناول الطعام. الأرجح ان هؤلاء السوبر أغنياء، الواقفين في أعلى القمم التي يمكن أن يسكنها البشر، يعرفون تماما، بحكم قربهم من نخب أخرى، ذات اختصاصات أخرى، صانعة الطعام المروَّج له دوليا، يعرفون انها تكذب في إعلاناتها، وان كل ما تقدمه من طعام جاهز هو تأسيس لمشكلة صحية، هم قادرون على تجنّبها، بحكم عمق إدراكهم لفساد الأغذية التي يصنعها نظراؤهم.

ومصالح هذه النخبة الغذائية هائلة، رفيقة درب الكبار، أقوى من رجالات السياسة ومن الإعلام، المرئي والمكتوب والمسموع، بل هي التي تضخّ لهم الأموال اللازمة لتشغيل محركاتهم. خذْ مثلا أكبر عمالقة الصناعة الغذائية، «نستليه» التي تنتج «كيت كات»، و»سمارتيز»، «نسكويك» «ماجي»…الخ. هذه الشركة التي تستخدم ما يقارب النصف مليون موظف وعامل، والتي تحقق 92 مليار دولار من الأرباح سنويا، هذه الشركة أصبحت أقوى من الدولة السويسرية. يكفي ان تنقل منشآتها إلى الخارج ليختنق الاقتصاد السويسري، كما يقول الخبراء الإقتصاديون. كذلك الحال بالنسبة لشركة «دانون» الفرنسية؛ أو شركات «شيبس لاي»، أو «مينينونس»، أو «بيبسي كولا» الأميركية؛ أو البريطانية، الهولندية الأصل، «كادبوري»، أو «شويبس»؛ أو مجموعة «فيريرو» الإيطالية صاحبة «كنْدر» و»سوربرايز» و»نوتيلا». وكلها نخب عالمية غربية الموطن، وعت قبل غيرها من نخب البلدان المتخلفة عنها، مضار الطعام الجماهيري، التجاري، الذي يضحك على الذوق ويتلاعب بمشاعره الضعيفة. فحفظت صحتها، أو حاولت؛ فيما البلدان المتخلفة، صاحبة ثقافة الموائد الفاخرة، ومظاهر الوفرة والبحوحة، كما في الهند والصين (أهل المدن) والمكسيك والبرازيل ودول الخليج، فهي تسجل أعلى الأرقام في الإصابة بالأمراض القاتلة.

الشوكولا، «نوتيلا»، انكشف أمرها إعلاميا منذ أشهر، من انها تستخدم في خلطتها مواد كيميائية تؤدي الى الإدمان على شوكولاتها. لكن شيئا لم يحصل بعد ذلك. كأن أمراً خطيراً لم ينفضح، استمرت «نوتيلا» بالصناعة والبيع، والدعاية… وعندما توفي صاحبها مؤخراً، أقيم له حفل تكريم أشاد فيه المتكلمون بمزايا الراحل الأخلاقية وحبه للخير الخ. مع ان الكشف الإعلامي عن مواد إدمان في هذه الشوكولا ليس بالأمر الجديد؛ فكل المصنوعات السكرية صار معروفا انها، ومن دون التوقف أمام مستوى الارباح، اذ تريدها دائما أعلى، ثم أعلى… تجرِّب في مختبراتها شتى أصناف «الأطايب» الجديدة التي يمكن إضافتها لكي يبقى الزبون «وفياً» لمنتجها. إلى درجة يتحول معها هذا المنتج، ومن دون إعلان تجاري، إلى حاجة يومية، ملحة، يحاول المستهلك أن ينساها، يبتعد عنها، ولكن عبثا… أصبح عاجزاً عن التخلي عن هذا الذي يشعره بـ»السعادة»، المكوَّن من ملوّنات ومنكّهات وروائح، وكلها كيمياء على كيمياء. لا يخلص من مرطبان الشوكولاتة أو المثلجات أو الصلصات أو البونبونات أو البسكويت الخ، حتى يكون أتى بغيره، تأميناً لذخيرته من طعام صار بمثابة حشيشة الكيف…

واحد وتسعون بالمئة من الأمراض الخطيرة، سرطان، ضغط، قلب… مسؤول عنها سوء طعامنا المصنَّع، الخاضع لقوانين ربحية هائلة، والمتفلت من رقابة الإعلام والسياسة، المتفوق عليهما نفوذا. انها دائرة مغلقة، يصعب كسرها من دون قيام الوعي المضاد بواجباته لمجابهة الأخطار المتزايدة على صحتنا، والتنبّه لها، واختراع سُبل مقاطعة الإعلانات التجارية، أو صناعة نقيضها. وطعامنا يحتاج الى ذاكرتنا، لكي نحميه من قطّاع الطرق، وقراصنة مخيلتنا وبواطننا.

أو نلجأ الى بدعة الرئيس التركي طيب اردوغان، الذي أمر ببناء مختبر في قصره الإمبراطوري الجديد، بإشراف أطباء متخصصين، ليفحصوا الطعام الذي سيتناوله؛ إذ من يعلم؟ قد يتعرض لهجوم كيماوي أو اشعاعي أو بيولوجي، عبر الطعام… نبني مختبرا بالحجم الوطني، يدقق بكل شاردة وواردة نأكلها، ويعفينا من العروض المسرحية الملعوبة يومياً، عن فساد كاسد، قديم، بائت، خارج العصر، ويحمينا من حيتان الصناعات الغذائية المعولمين، الذين يتسلّلون إلى بطوننا مثل خلايا الموت الانتحاري.

(المستقبل)

السابق
هل ينفصل براد بيت وأنجلينا جولي؟
التالي
سرقة كابل كهربائي في تول