غربة الثقافة في زمن الدواعش

إذا كانت الهوية الثقافية تعني فيما تعنيه مجموعة النشاطات والتفاعلات مع منظومة القيم والمعارف الإنسانية التي يختزنها الإنسان مع مرور الزمن ومن ثم يبرزها في سلوكياته ومواقفه ، فإن المشكلةاليوم أمام هذا المشهد التراجيدي الداعشي المتقن في حلقاته الزاخرة بالد م المستباح هي التواصل الخاطىء مع الهوية الثقافية حيث التفاعل السلبي والمتخلف معها جرّاء القراءات اللامسؤولة واللامستنيرة من الإنسان مع ما يحمل من ثقافة مفترض أن تكون الحافز الفعلي لإنتاجه وفعله الإيجابي على الدوام.

واليوم نعثر أو نسمع بكم هائل من القراءات والخطابات الغرائزية والتي تستحضر العصبيات وتستنفرها وذلك تساوقا مع هذه التراجيديا التي تحولت إلى مرتكز ثقافي في وجدان البعض هذا الجهل وإن كان تعميمه مقصوداً أو غيرمقصود من أصحابه ومن يقف وراءهم يطال بخطورته المجتمع بوجه عام ليس فقط عبر لغة السكين أو الإقصاء بل فيما يحاول زرعه من ثقافة مزعومة وتقديمها على أنها المقدس وهنا يتحول الفعل التدميري للإنسان والحياة شيئا عاديا ومستباحا باسم الثقافة فيما الثقافة في الأصل فعل ارتقاء بالإنسان والأخذ بمشاعره نحو الانضباط وإبراز الأصالة المنفتحة على المخزون الثقافي عبر القراءات الواعية التي تنبع من المسؤولية والوعي المستند إلى جملة من التعاملات الهادئة والرصينة مع مناخات الواقع وأوضاعه ، فلا يوجد في قاموس هذ ه التعاملات أي من القتل والدم والعدوان والبغي ، هذه المفردات التي تغتال التعبير الأعلى للكرامة الإنسانية (العقل).
ما يجري اليوم أو ما جرى من أعمال قتل وهمجية وعصبية لا يمكن أن تكون ثقافة مجتمع قابلة للحياة مهما تلطت برداء الثقافة فإنها ستتعرى ، فليس في الهوية الثقافية ما يغطي ذلك ولا فيها مساحات للتعمية أو التضليل أو الاستثمار.
لطالما كان تاريخنا مليئا بأحداث بينت مع الوقت سوء الارتباط الحي بالهوية القافية الاصيلة، ودللت على كثير من المساوىء في الشخصية العربية الاسلامية من موقعة الجمل عام 36 هجرية إلى موقعة صفين في العام التالي إلى موقعة النهروان عام 38 هجرية إلى واقعة كربلاء عام 61 هجرية إلى وقعة الحرة عام 63 هجرية من كل هذه المواقع يتضح وجود عنصران يتفوق فيهما المسلمون الضعف وسرعة الوقوع في الفتنة حيث القوة شكلا من أشكال تحقيق الذات وهذا يعتبر قمة الخوف من الانفتاح على الحق والحقيقة وبالتالي إرضاء للفهم الذي يرى في الانغلاق على العصبية متنفساً له يبني عالمه الخاص فيه ومن ذلك المقلب الثقافي ومع الوقت يصبح ذا طابع سلبي لا جدال فيه.
فمتى يتحرر العقل العربي من غرائزيته وينتفض المسلمون على شيء اسمه اتِّباع وينتقلون إلى الفعل الثقافي الذي يعيد ترتيب الفهم وتوجيه الذات بما يليق بها؟
لايمكن أن نعيش في ظل ثقافة إنسان مسلوبة الهوية وفاقدة لأبسط شروطها بل نحتاج إلى إنسان ثقافة بمعنى أن يتمثل الإنسان ثقافته كما يجب في الواقع بشكل يرفع من مستواه وكما يقول المرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله:” إن هناك فرق بين أن يكون هناك إنسان ثقافة وثقافة إنسان ، فمسألة أن يكون الإنسان إنسان ثقافة معناه أن الثقافة تتحرك في الأرض وتمثل روح الإنسان وفكره ووجدانه وتطلعاته وحتى أحلامه لأننا قد نحتاج إلى أن تكون لدينا أحلام مثقفة لأن الأحلام المثقفة تستطيع أن توازن تطلعات الإنسان في حركته في الواقع وفي حركته نحو المستقبل”.

والمسلسل بعيد عن أنسنة الثقافة باعتبار أن المنتفعين كثر وغياب من يواجههم بالثقافة الهادفة أكثر ، وما دامت منابع الثقافة الأصلية من محبة وتسامح وانفتاح وحوار منتج وسؤال معرفي مستنير لم يصلها المرء بعد أو ليس مؤهلا بعد للا رتشاف منها فسيظل تا ئها وضائعا ومنزويا في دائرة أنانياته وعصبياته الضيقة وإن توسل لذلك خطابا ثقافيا يحاول به أن يغطي عوراته ، فالمشكلة قائمة ودائرتها تكبر مع أجيال تقتات على مخلفاتنا وعصبياتنا.

ما لم يوجد إنسان وعي فعل الثقافة وتأثيرها ، وما لم يعش المرء نظافة الفكر والروح والشعور لن يكون هناك قابلية لخلق الفعل الثقافي المبدع الذي يضبط حركة الإنسان في تصوراته وأفكاره وسلوكياته وسيبقى التجييش المذهبي والعصبيات هو من يغذي الثقافة التي يصفق لها البعض ويحتفلون بها لأن فقدان التوجه السليم نحو الغاية الثقافية التي ترتقي بالمخزون الثقافي للإنسان بالشكل المستنير سيجعل بقاء انعدام المثقف والثقافة في الواقع أمراً حلالاً وإن كان مكروها ومدمراً في نتائجه.

السابق
هبة إيطالية لثانوية الشهابية الرسمية
التالي
أربعة برلمانيين فرنسيين التقوا الرئيس السوري بشار الاسد