ليتعلّم لبنان من الاردن

لا يمكن أي مراقب أداء الدولة الأردنية منذ اعلان استشهاد الطيار معاذ الكساسبة بالطريقة الرهيبة التي شهدها العالم، الا ان يبدي الاعجاب بالتصرف المسؤول والسريع الذي قامت قامت به عمان حيال الحدث الذي رفعته الى مرتبة كارثة وطنية.

سارع ملك الأردن الى مخاطبة شعبه بنبرة الحزن الممزوجة بالتحدي والتي تعبّر عما يعتمر في صدور الاردنيين من ألم متوعداً بالقصاص من القتلة. وقبله، كانت رسالة القوات المسلحة التي سارعت الى اعلان نبأ الاستشهاد وتبليغه الى ذوي الطيار، والى بث رسالة خاطبت فيها الجمهور الغاضب والأعداء في آن بالتصميم على ثأرٍ “مزلزلٍ” آت لامحال. بدورها، وسائل الاعلام الاردنية، ومنذ اللحظة الاولى للفاجعة، ارتسمت علامات الحداد على شاشاتها ووضعت صورة “البطل” أعلاها وقامت بتعديل برامجها. اما الخطوة العملية المباشرة التي أسهمت في امتصاص غضب الشارع، فتمثلت في تسريب خبر نقل مسجونين مدانين بالاعدام الى سجون أخرى لتنفيذ الأحكام في رسالة واضحة الى التنظيم المتشدد، وذلك بعد دقائق من انتشار خبر الاعدام، وفي جرعة رد أولية على العمل الارهابي.

شعر اللبنانيون بالأمس بمصاب الأردنيين أكثر من غيرهم بسبب التجارب التي مرّوا بها منذ أزمة اختطاف العسكريين أثناء معركة عرسال في آب الماضي، وحضرت المقارنة الفورية بين أداء مملكة تحفظ هيبتها وتراعي مشاعر شعبها وتتصرف مع اعدام الكساسبة على انه تطاولٌ على كيانها وليس أقل، وبين جمهورية امتهنت الارباك في التعاطي مع الأزمات.

في أيلول الماضي، كانت تجربتنا الأولى مع الاعدام الهمجي ذبحاً للرقيب علي السيد على يد تنظيم “داعش”، ويتذكر الجميع كيف لم يتأكد خبر استشهاده الا بعد يومين من بث التنظيم الارهابي مشاهد الاعدام الفظيعة التي لم تتعامل معها أجهزة الدولة المتعددة الا بالعجز المدوي. يتذكر الجميع كيف وقع ذوو علي السيد تحت رحمة الشائعات بأنه حيٌ من دون ان تحسم الاجهزة الرسمية المعنية الأمر وتبادر سريعاً الى توجيه رسالة شافية لصدور المنتظرين، فوقع حينها الاعلام في ارباك “هل استشهد علي ام لم يستشهد”. ولم تكن تجربة إعدامه درساً للمستقبل، فأعدم بعده عباس مدلج ومحمد حمية وعلي البزال، وكانت هموم المستوى الرسمي الفورية مقتصرة على محاصرة احتقان الشارع وعدم انجراره الى فتنة مذهبية! فتركزت الأنظار على طريق اللبوة وعرسال وأهملت أوراق القوة التي أمكن أن تُستخدم لمخاطبة الارهاب باللغة التي يفهمها، فبدت الدولة في كل مرة أعجز من التي سبقتها في التعاطي مع الفاجعة. فلا شاهدنا رئيس حكومة، في غياب رئيس الجمهورية، يسارع الى مخاطبة شعبه ويرفع الحدث الى مستوى الكارثة الوطنية، ولا قامت مؤسسة عسكرية مدعومة بضغط الرأي العام بفرض شروطها على السياسيين، ولا رأينا تنفيذ حكم اعدام واحد بمدانٍ بالارهاب، ما وجه رسالة مطمئنة الى حفنة من الارهابيين القابعين في الجرود بأن في إمكانهم خطف المزيد كل يوم والاستمرار في الاعدامات لأن هناك من يخاف تنفيذ حكم إعدام وهناك من هو مستعد لمسايرة شروطهم في إيصال المؤن لظنٍ أن ذلك سيطيل عمر العسكر المخطوف. وما الكشف عن هدف هجوم جرود رأس بعلبك الأخير الذي شنته عصابة “داعش” والمتمثل في محاولة خطف المزيد من الجنود الا دليلاً على أريحية تشعر بها المنظمات الارهابية تجاه ردات الفعل على عمليات الخطف.

ولا يكتمل مشهد المقارنة الا باستذكار أدوار وسائل اعلامية استكثرت على الشهداء “الاستثنائيين” بطريقة موتهم، تعديل برامجها، فحفلت شاشات بوصلات الكوميديا او “التوك شو” الفضائحي، في ليالٍ كان يجب أن يكون الحزن الجليل اللغة الوحيدة في الرسائل التي تبثها أجهزة الاعلام.
جاهرَ الأردن رسمياً خلال فترة التفاوض باستعداده لاطلاق ساجدة الريشاوي مشترطاً اثباتاً بأن معاذ الكساسبة حيٌ لوجود معلومات سابقة تؤكد أنه أعدم في الثالث من الشهر الماضي، ولم يحسم لبنان خياره غير الواضح في المقايضة الا بعد أشهر من المقاربات السياسية المختلفة للأزمة. وان كانت المقايضة “المعقولة” لاستعادة الأسرى وكتعبير عن حرص على أرواح الجنود لا تنتقص من الدول، فان عدم الثأر لاعدامهم في الأسر والمعارك المتكررة يعبّر عن ضعف عميق في مواجهة موجة الارهاب الآخذة في التمدد، وعن استسهال الاستسلام لقواعد لعبة تفرضها عصابات ارهابية أسرت هيبة الدولة مع جنودها.

(النهار)

السابق
انتشال جثة العامل الذي كان مفقوداً من المعمل الذي احترق بالدكوانة
التالي
Lebanon’s double standards in dealing with paramilitary arms