رفيق علي أحمد يعجن مسرحا بطعم الزؤان، ويخبزه رافخا كالضحك الكاذب عيشا للفقراء. هو ليس الأم تيريزا ولا الأب بيار ولا أيضا البابا الجديد فرنسيس، وكل من يحضن البؤس على الأرض، أرضه مسرحه وعلى مساحته يخلق وطنا معذبا وإنسانا مغتالا في وجوده، ومنهما تنضح، من مسرحية إلى اخرى، رسالة فنان استطاع بمواهبه المتفجّرة أن يثبت هويته الدرامية، حتى كأننا نحن جمهوره المدمن عروضه، نأتي إلى كل جديد لنشهد فصولا جديدة من كتاب لم تنته رسالته بعد.
خارج المسرح وقبل بدء العرض، مراسلون من قنوات تلفزيونية مختلفة، كانت مهمّتهم التقاط آراء بعض الصحافيين ورجال المسرح في الفنان رفيق علي أحمد، الشخصية المسرحية المنقوشة في الذاكرة. اما ليلتنا معه فلم يكن تسرّب منها سوى ما أوحته إلينا بطاقة الدعوة الحاملة “وحشة” عنوانا وصورة رجل متشرّد، متقوقع إلى جانب من الشارع. فهل من خلال البطاقة بدأت قصة أبو ميشال، مع المرأة الخائنة التي هجرته ورمته في العدم؟
ذاكرته نار متوقّدة يشعل بها أزمنة، تلتقي بين عهد عتيق من سفر التكوين وآخر حديث يوقد عليه رفيق علي أحمد مقارنات ومقاربات لم يغيّر منها العالم الجديد ذرّة، يعالجها بأسلوب مركّز لا يفقد توازنه في المعايير التي يصوّرها بملامح الأنثى المتلازمة مع شريعتها عبر العصور، شريعة الغدر.
بعد مشاهد سريعة لبيروت ما قبل الحرب، يتثبّت المشهد عند مبان عالية غارقة في الصمت ووحشة الليل، أبو ميشال المتشرّد يرثيها بغنائه، لمستمع واحد، القطّ الثائر، عنتر، الرافض القمع، مؤثرا الحرية على دفء البيت والغذاء الخاص بالقطط. أبو ميشال وجد فيه توأمه في المصير وما عادا يفترقان، فكلاهما من سكان هذا الشارع، شاردان بلا مسكن ثابت، فلولاه لما وجد أبو ميشال أذنا لرثائه: “الناس بتشمت، موجوع أنا يا عنتر من وقت ما تركتني. كانت حلوة لكن الشيطان لعب فيها”. المونودراما، لا تدوم في أسلوب هذا الفنان الماهر في نقل الخيط الدرامي، من يد المستعطي حبا، إلى يد العالم بأمور الجنس، ومرجعه جدّه الذي روى له أن رجلا مات لكن ظل فيه عضو نابض، ما جعل أسئلة جوهرية تحوم حول اعتباره ميتا أم حيا.
على مدى ساعة وعشر دقائق كان المسرح له وحده بلا كلل، حكواتي باهر إن صمت هنيهة، كان للفراغ مفاجأته، إذ سرعان ما يعود ليلتئم سيل الكلمات، يضيء به جانبا آخر من هجائه، مكسوا بالطرافة أو عاريا من الستر. فالبنايات التي يملكها بالفحش والفساد رجل واحد، حملت على واجهتها عبارة “هذا ملك الله”، يتلقاها ابو ميشال الباحث عن لقمته في علبة النفايات أسوة بعنتر، وفي باله “الساذج” سؤال: أيكون الله عزّ وجلّ شريكه؟ مآسي الوطن غربلها حبة حبة، وليس في باله أن يخبرنا ما لسنا نحن بحاجة إلى سماعه، بيد أن أسلوبه في سرد فضائح الغذاء الفاسد، والرشوة، والزعبرة، والتمديد والدستور، له نكهة فشة الخلق، والضحكة المتحرّرة من ملزمة الغصة الأكولة، مهما كانت قارصة. فكلماته التي يرشّها في فضاء المسرح، بلكنتها الجنوبية، وتقاليد الأرض التي نشأ فيها، تتجلّى لدى هذا الانسان المثفقّف بأناقة وذوق، وتبقى راقية لا تصدم السمع مهما حرّر لسانه وأطلق له العنان أحيانا. إذ تبقى سيرة هذا الفنان الكبير رسولية، طريفة وأكثر من الطرافة، مثيرة للمشاعر الانسانية المجرّحة. صفات لم تتخلّ عن مهاراته الابداعية على مر الزمن، مواكبة لفكره الخلاّق وجسده المرن، الطيّع، إن حكى، كان له الجسد شراكته في تفعيل الحدث، وإن لوّح بيديه، حوّل الهواء أنسا أنيسا له.
“وحشة” المسرحية القاسية، التي لوّنها رفيق علي أحمد بعتمة الليل ودعا أبو ميشال ليكون ذلك الزائر الليلي الذي لا يرى النهار ينبلج على مأساته. زوجته الخائنة باعت البيت الذي كتبه باسمها من فرط حبه لها. الملتحف بشال يتقي به صقيع الليل، عاد بالذاكرة إلى تاريخ المرأة عبر العصور، وبالمقارنة بين هذه الزوجة التي فرّت مع عشيقها وحواء الماكرة التي أغوت آدم بقضمة تفاحة، يستثير طعم التفاح الرجل منذ ذلك الحين فيعود إلى اقتراف الخطيئة أمام كل امرأة.
من هذا الفصل الأول لسفر التكوين، تتالت في ذاكرته أسماء نساء صنّف التاريخ أسماءهن لخياناتهن على مستوى الملوك، من زليخة زوجة الفرعون، وسالومي التي أغوت هيرودوس فكان لها ما تريد، رأس يوحنا المعمدان على طبق، وهيلانة التي كانت السبب في حرب طروادة. إمرأة واحدة خرجت بريئة من محكمة أبو ميشال، عفاف المرأة التي كان لها في بيروت تاريخ عز وجاه. لعل الدراما التي لم يحاول رفيق علي أحمد سكبها في قالب من الطرافة، هي التي شاءها رثاء للأبناء الذين يرسلونهم إلى الشهادة.
في هذا المكان الصامت بين القبور، يقرأ رفيق علي أحمد أسماء من رحلوا، معترفاً بأن في السير بين المدافن طمأنينة وراحة، يتمناهما كل من ملّ الحياة. الغناء حداء من تقاليد الأرض المشبعة بالدماء، والذراعان في موكب الموت ترفعان عالياً نعش حبيب.