افتتح العام الجديد 2015 بالعمل الإرهابي المشين ضد مجلة «شارلي إيبدو» الفرنسية، فأمضى المهتمون حول العالم الأيام الماضية جل أوقاتهم في متابعة الحدث وتفاصيله الدقيقة المفزعة. كما انشغل العالم بمتابعة التظاهرة الباريسية الضخمة أمس، التي شاركت فيها شخصيات عربية وشرق أوسطية (من ضمنها الإرهابي بنيامين نتنياهو)، في محاولة لركوب موجة الحادث أو التقليل من آثاره. ومع انتهاء التظاهرة ومرور وقت التنديد والتغطيات الإعلامية، تنفتح الأبواب رويداً رويداً أمام رؤية التداعيات الجيو – سياسية الكبرى لذلك العمل الإرهابي، تلك التي ستؤثر على التوازنات في أوروبا والشرق الأوسط على حد سواء. ومرد ذلك أن الأعمال الإرهابية الكبرى تختلف عن حوادث الوفيات الاعتيادية حتى ولو فاقتها الأخيرة عدداً، فمقتل اثني عشر صحافياً اغتيالاً على خلفية إرهابية ـ كما حدث مع صحافيي «شارلي إيبدو» – له تداعيات جيو – سياسية أكبر بكثير من وفاة مئات الأفراد في حادث تصادم قطارين مثلاً أو حتى ألفي شخص في حادث شغب بملعب لكرة القدم، حيث يختصر الموضوع عندها في جانب المأساة الإنسانية فقط.
عند الحديث عن تداعيات جيو – سياسية لحدث مثل الاعتداء على مجلة «شارلي إيبدو»، من الطبيعي أن يكون هناك رابحون وخاسرون، دولاً وتنظيمات، على امتداد رقعة جغرافية أوسع كثيراً من الحيز المكاني الضيق الذي جرى فيه الحادث الإرهابي. وهنا تجدر ملاحظة أن المشاركة في تظاهرة أمس ليست معياراً لتصنيف الرابحين أو الخاسرين، فهناك من غاب وربح وهناك من خسر بالرغم من مشاركته.
الرابحون المباشرون
تتوزع مروحة الرابحين على أطراف دولتية وغير دولتية عدة، لكل منها مغانمه من الحادث الإرهابي. يتصدر اليمين العنصري في فرنسا وأوروبا قائمة الرابحين من العملية الإرهابية، إذ إن دعايته الأساسية القائمة على العداء للمهاجرين على خلفية تباطؤ الأداء الاقتصادي، تكتسب تبريراً لعنصريتها الزاعقة، خاصة بين الشرائح الاجتماعية الأدنى في أوروبا. ويضغط ذلك أكثر على الحكومات الأوروبية المتشكلة من توليفة من أحزاب الوسط يميناً ويساراً، فيدفعها إلى تبني أطروحات اليمين العنصري من تقييد أبواب الهجرة واتخاذ إجراءات للحد من دخول الأجانب إلى أراضيها.
تأتي التنظيمات الإرهابية في الشرق الأوسط مثل «القاعدة» و «داعش» ومثيلاتها في قائمة الرابحين أيضاً، لأن العمليات الإرهابية ستزيد الاستقطاب داخل المجتمعات الغربية في أوساط المهاجرين المسلمين المتجنسين منهم أو المقيمين والذين يقدر عددهم بالملايين، فتستطيع تلك التنظيمات بالتالي تجنيد المزيد من العناصر في الغرب، حتى ولو كانت الغالبية الساحقة من المهاجرين المسلمين تعادي الإرهاب.
في قائمة الرابحين أيضاً الأنظمة العربية التي ترفع شعار «محاربة الإرهاب»، لأنها أصبحت في شراكة موضوعية مع الحكومات الغربية تحت شعار «العدو المشترك». وسيرتب ذلك غضاً غربياً للنظر عن التجاوزات بحق حقوق الإنسان في الحد الأدنى، وتنسيقاً أمنياً – سياسياً بين الحكومات الغربية والأنظمة العربية في الحد الأقصى.
ولا تغيب إيران عن قائمة الرابحين، إذ إن الحديث الموارب ونصف المكشوف عن «الإرهاب السني» سيستدعي لغوياً وسياسياً مصالح مشتركة بين إيران والغرب، في ما يخص محاربة «داعش» و «النصرة» في المشرق العربي، ما يدفع التقارب الإيراني – الغربي عموماً إلى أمام. وبرغم هجوم وسائل الإعلام القريبة من إيران على السياسات الغربية وسياسات الكيل بمكيالين و «الحرب الصليبية الجديدة» التي يتبناها الغرب ضد المسلمين، فقد كانت إيران من أوائل الدول التي أدانت العملية الإرهابية على لسان المتحدثة باسم وزارة الخارجیة الإيرانية مرضیة أفخم في يوم وقوعها. كما استغل «المجلس الإيراني – الأميركي»، وهو من مجموعات الضغط المؤيدة لإيران في أميركا، الحادث الإرهابي وأصدر بياناً بعده بساعات قليلة قال فيه حرفياً: «إن أميركا وإيران تواجهان عدواً واحداً من «القاعدة» إلى «طالبان» إلى «داعش» وشبيهاتها من التنظيمات، ما يتطلب العمل المشترك للقضاء عليها. إن أحداث يوم الأربعاء المأساوية هي تذكير إضافي لهذين البلدين للتفكير بصورة أكثر استراتيجية حول ضرورة التوصل إلى صفقة مربحة للطرفين لحل الخلاف النووي وصولاً إلى علاقات أفضل». تجترح إيران خطاباً معقداً إلى حد ما، يتوجه جانب منه إلى المنطقة وشعوبها بمفردات المظلومية والمؤامرة ومعاداة الغرب، أما الجانب الآخر فيستهدف الغرب وحكوماته تحت عنوان «المصالح المشتركة في مواجهة عدو واحد». هنا بالتحديد تتشابه حكومة خاتمي مع حكومة روحاني، إذ ندد كلاهما بالأعمال الإرهابية في الحادي عشر من أيلول 2001 والسابع من كانون الثاني 2015 نائياً ببلاده عن فاعليها، ومذكراً الغرب بـ «العدو المشترك» الذي يواجهه الغرب وإيران.
الخاسرون المباشرون
خسرت صورة الإسلام في العالم من جراء العمل الإرهابي، مثلما خسر المهاجرون العرب والمسلمون في أوروبا، فهؤلاء سيتعرضون لتضييق قانوني واجتماعي في أماكن عيشهم، وسيصبح على الكثير منهم تبرير أنفسهم في مجتمعاتهم. أما اللاجئون السوريون في أوروبا، والذين لم تستقر أوضاعهم القانونية بعد، فالأرجح أنهم الفئة الأكثر تضرراً من العمل الإرهابي ضد مجلة «شارلي إيبدو». لكن قائمة الخاسرين تطال أيضاً حركات سياسية كبرى ودولاً، حتى ولو لم يكن لهم علاقة مباشرة أو غير مباشرة بما حدث.
تتصدر جماعة «الإخوان المسلمين» قائمة الخاسرين من الحادث الإرهابي في باريس من أوجه عدة، فالتغطيات الإعلامية العامة عن «الإرهاب الإسلاموي» ستخلط بالضرورة بين «داعش» و «القاعدة» والسلفيين و «الإخوان المسلمين»، ما يدمّر الأجواء الإيجابية التي أحاطت بصورة التنظيم الدولي للجماعة حول العالم. ومن ناحية ثانية ستتراجع الأصوات الغربية المطالبة بتفاهم مع الجماعة وتمكينها من السلطة ـ كما جرى في المرحلة الأولى من «الربيع العربي» – في إطار تلبية المصالح الغربية في الشرق الأوسط. وبالمقابل ستتسيد التيارات والأجنحة في الغرب والداعية إلى إرساء التحالف في المنطقة مع الأنظمة القائمة تحت شعاري «الأمن والاستقرار» مع استبعاد شعارات «المشاركة والتعددية»، والتي مكنت جماعة «الإخوان المسلمين» من الوصول إلى السلطة في تونس ومصر في العام 2012. ومن ناحية ثالثة سيتراجع الطلب الداخلي في الدول العربية على «التصالح» مع الجماعة في إطار عملية سياسية إدماجية، ويربح الصقور في أنظمة الحكم العربية الرافضين لحوار كهذا. ومن ناحية رابعة ستنسحب خسارة «الإخوان المسلمين» على حليفاتها الإقليميات مثل قطر وتركيا، لأن مساعيهما الأخيرة لإعادة الجماعة إلى المشهد الإقليمي في إطار التسليم بموازين القوى الجديدة، ستتعرض لانتكاسة قوية.
يمكن تقدير أن السعودية تأتي في قائمة الخاسرين أيضاً، فالقرابة الفكرية بين الوهابية من ناحية، و «القاعدة» و «داعش» ومن على شاكلتها من تنظيمات من ناحية أخرى تبدو عصية على الإخفاء وتجعل السعودية هدفاً إعلامياً سهلاً لخصومها. ومثلما بذلت السعودية جهوداً ضخمة بعد أحداث أيلول 2001 في حملات الديبلوماسية العامة للحفاظ على تحالفها الدولي مع أميركا، فالأغلب أن المملكة ستضطر إلى القيام بخطوات مماثلة في أعقاب عملية «شارلي إيبدو» الإرهابية، مع الفارق أن المملكة ليست في أفضل أحوالها راهناً، بسبب عدم الوضوح في عملية انتقال السلطة المرتقبة فيها.
لن تعفي مشاركة رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو في تظاهرة أمس تركيا من الخسارة: أولاً بسبب العدد الكبير للمهاجرين الأتراك في أوروبا وما سيتعرضون له ضمن الإطار العام للمهاجرين من تضييق، ثانياً على خلفية تراجع صورة الحليف الإقليمي المتمثل في جماعة «الإخوان المسلمين» في الغرب والعالم، ثالثاً لكون تداعيات العمل الإرهابي ستصب في مصلحة غريمي تركيا النظامين السوري والمصري اللذين «يحاربان الإرهاب»، ورابعاً بسبب الربط الجاري أوروبياً الآن بين حريات الصحافة المتراجعة في تركيا والحادث الإرهابي ضد مجلة «شارلي إيبدو»، ما يمنع تركيا من تصوير نفسها متضامناً مع الصحافيين الفرنسيين القتلى.
جردة أولية ومؤشرات متضاربة
تمثل السطور أعلاه جردة أولية فقط للرابحين والخاسرين من الحدث الإرهابي على مجلة «شارلي إيبدو» الفرنسية، وهي قراءة تحتاج بعد مرور بعض الوقت إلى مراجعات تالية. ومرد ذلك أن الحصيلة النهائية للرابحين والخاسرين سترتهن بسلوك الأطراف المعنية في التعامل مع التداعيات الجيو – سياسية للعمل الإرهابي في باريس. وبالإضافة إلى ذلك، تتوافر مؤشرات أخرى بعد عملية «شارلي إيبدو» تحتاج إلى متابعتها بدقة، بما قد يعدل من هذه الجردة الأولية. والمثال على ذلك عملية جبل محسن الإرهابية في لبنان أول من أمس، وتسريبات مجلة «دير شبيغل» الألمانية الزاعمة بوجود مجمع تحت الأرض في سوريا بالقرب من لبنان يمكنه تصنيع سلاح نووي. فهل يعني ذلك بداية تصعيد ضد النظام السوري وتحالفاته الإقليمية عبر ضرب مشروع التوافق السني – الشيعي في لبنان وحشد رأي عام دولي ضد «الخطر النووي السوري»، أم أن عملية «شارلي إيبدو» الإرهابية ونتائجها الجيو – سياسية ستجرف في طريقها المؤشرات الأخرى وتثبت الجردة الأولية للرابحين والخاسرين؟ لننتظر وسنرى!
http://assafir.com/Article/18/395129