الأصوليات وسِحرُ التطابق!

تراهم يفدون فرادى وجماعات، يضربون الأرض، خفافاً وثقالاً، مشيحين بوجوههم عن الأهل، والأحباب، وميممين وجوههم صوب سوحٍ كلها غبرة ودم وقتال، لا لشيء، سوى بحث عن “الفردوس المفقود”، عن “السحر” الذي يحيط بأحلامهم، والذي يصنع لهم مخيالاً عن الحيوات القادمة، حيوات بنظرهم أكثر إغراء وسعادة مما هم عليه الآن!.

هو ذا حال الشباب في سوح “الجهاد” المزعوم، سوحٌ بدأت تتناثر يمنة وشمالاً، في أفغانستان، والعراق، وسورية، واليمن، ولبنان، وليبيا.. وسواها. هي مساحات يمارس فيها الفرد العربي غوايته التي لا يعي أي هاوية تقوده إليها. غواية السلاح، ولمعان البنادق، وصوت الرصاص الذي هو لديه أعذب مما أنتج بيتهوفن وباخ وموزارت مجتمعين.

كثيرٌ كتب عما يحرك هؤلاء ويجعلهم يتقافزون إلى نار حمراء مستعرة!. الحال الاجتماعية، الأوضاع الاقتصادية والسياسية، الشعور بعدم تحقيق الذات، الصور الدامية للمجازر.. وغير ذلك الكثير مما يحمل وجاهة تارة، وما يكتنف بعداً عن ملامسة الجرح، ومحاولة إلقاء التهم على “المؤامرة”، أو “الخارج”، أو “الإمبريالة”، تارات كثيرة!.

الجميع عربياً يحاول أن يبعد كرة النار عن حضنه، لا يريد أحد أن تبان سوأته، أو يقال إن الخلل هنا، في داخل الجسد، وليس آت من وراء حدود باتت أصلاً متداخلة. بل، أضحت بفعل “الأصوليين” مستباحة. فها هم عناصر “داعش” ينتقلون بين العراق وسورية ولبنان، وكأنهم في إماراتهم الذاتية، وأقاليمهم الخاصة. وما حادثة الهجوم على المنفذ الحدودي السعودي في عرعر، إلا أمثولة واحدة على سلوك “الأصوليات” الرامي إلى نشر شررِ “السحر”، وإزاحة الحدود شيئاً فشيئاً!.

ما يجعل “داعش” خطرة، ليس مجرد الإمكانات المادية والبشرية التي تمتلكها، ولا مستوى التنظيم المتقن، ولا الخزان البشري لديها، والشراسة والجلافة التي يتمتع بها مقاتلوها، وليس امتلاكها التقنية أيضاً، على الرغم من الأهمية الكبرى لهذه العناصر. إلا أن من أهم ما يعطيها قوتها، ما تَعِدُ به، وهو هذا “السحر” المتخيل، الذي تبثه في خطبها، وتنشره بمهارة في المواقع الاجتماعية، وتجذب به حتى الشباب القابعين في مجتمعات ودول مدنية وعلمانية.

هو سحر عصر الحدود المفتوحة، والفوضى العابرة للدول. هو السعي إلى تقويض ما هو كائن، وما يرى فيه الشباب خراباً وفساداً وجشعاً، واستبداله ببنيان جديد، يدعون أنه سيكون أكثر عدلاً وانتظاماً ومساواة. و”داعش” في سعيها هذا، ترنو لإقامة ما يشبه “المستحيل”، وهو خلق “التطابق” بين الحركات والمجتمعات والأفراد. وهو “التطابق” المتعسر فلسفياً ووجودياً. فحتى بصمة الإصبع للفرد، تختلف من إنسان لآخر، فضلاً عن اختلاف الأفكار، والنشأة، وأساليب الحياة.

إن الحركات “الأصولية” تسعى من خلال أدلوجاتها إلى “نمذجة” المجتمعات، وكأنها أباريق متشابهة، صنعت في ذات المصنع، واكتست ذات اللون، ووضعت في ذات الصندوق، وسُكب فيها ذات السائل. وهي “النمذجة” التي من المستحيل، حتى بالإكراه والقصر، أن تحصل.

لو تتبعنا ما أنتجه الفلاسفة، فلن نجد أي نظرية فلسفية تقر بوجود “التطابق” التام. كما أن كل سعي نحو التطابق الموهوم، هو سعي إيديولجي، وكل جماعة “أصولية” هي في داخلها تجتهد نحو تحقيق مشروع التطابق الكوني، وذلك من أجل صهر جميع النماذج في نموذجها الأوحد الخاص، وضمن قالبها “المتخيل”، ساعية لاختصار المسافات، وهو الاختصار الذي لن يقود لإشادة البنيان، بل، لهدمه، كونه لا يستقيم على رؤية علمية حقيقية. حيث “الأصوليات” تبتني على التطابق القهري، فإما معي، وإما السيف لك!.

إن نزع “السحر” بحسب تعبير ماكس فيبر، عن هذا المتخيل الوهمي لدى الأصوليات، لهو فعل جد ضروري، لأنه يسلبها جزءاً مما يعتبره أصحابها “هالة قدسية” في خطابات “داعش” وأخواتها، وهي الهالة التي يجب أن ترى ك”نار مدنسة”، لا ك”فردوس” منشود.

http://www.alriyadh.com/1011487

السابق
مسرحية «عدم» انتخاب رئيس الجمهورية مستمرّة حتّى إشعارٍ آخر
التالي
البوح والاعتراف