يكتب الشاعر والكاتب ناجي بيضون، ليُشْيع الفرح بين الناس، وهذه مهمة أدبيّة أصعب بكثير، من الكتابة من أجل الكتابة فقط، بل برأيي إن هذه المهمة هي أصعب بكثير من مهمة الأدب الملتزم – بالمعنى النضاليّ للكلمة – ذلك أن الكتابة بهذا المعنى، وكما هي لدى ناجي بيضون، ليست لديها أيّة “توهّمات” توصيليّة للمتلقّي، من أيّ نوع كان، وفي هذا السياق يأتي كتابه الجديد (ديوان “قصائد ساخرة”) الصادر حديثاً عن دار الفارابي – بيروت في طبعة أولى 2014 والذي حوله دار هذا الحوار:
نسبة لما هو وارد على الغلاف الأخير لديوانك الجديد “قصائد ساخرة”، يبدو أنّ كتاباتك الشعرية والنثرية، تُنسب جميعاً إلى “الأدب الساخر” من خلال نقدها اللاّذع، لأوضاعنا السياسية والاجتماعية، وعلى ما يظهر جلياً في هذا الديوان، فما هي خلفيّة ذلك، وما هو دافعه لديك؟
إن دافعي لهذا النوع من الكتابة هو، بالدرجة الأولى، حبِّي للآخر الذي يدفعني دائماً، إلى إدخال الفرح إلى قلبه، حتى وأنا أنتقده، وذلك لأنني لا أستطيع أن أتحمّل وجود أعداء، هذا عدا ذلك أن السخرية تجعلك أكثر شجاعة في طَرْقِ أي موضوع، وأكثر جرأة في وضع يدك على الجرح، كما يقولون، كما أن السخرية تجرّد، حتى من تسخر منه من سلاحه، حين يبتسم وهو يقرأك أو يسمعك.
تصف مضمون هذا الديوان بأنه “محاولات للضحك في زمن العولمة”، فهل تعني بتوصيفك هذا، بأن عجزنا عن تحقيق أي من قضايانا الكبرى، الوطنية والقومية.. إلخ. لم يُبْقِ لنا غير الضحك، على أنفسنا وعلى أوضاعنا البائسة، حتى لا ننفجر كمداً في مواجهة العولمة هذا الوحش المفترس؟
زمن العولمة، هو زمن الكشف والانكشاف، زمن سرعة انتقال المعلومات، وانعدام القدرة على إخفاء أي شيء، ولأن الأمر كذلك تبدو تعاسة أوضاعنا و”داعشيّتها” قديماً وحديثاً على جميع المستويات، الوطنية القومية..إلخ. مكشوفة ومثيرة للبكاء ومثيرة للتفجّع وللسخرية، وفي هذه الحالة، يُظَنّ أن إمكانية إضحاك المتلقّي العربي بشكل عام تكاد تكون معدومة، في ظل ظروف عديدة ومختلفة، تجعل من الجوّ العام، الاجتماعي والسياسي والثقافي والاقتصادي إلخ… وعلى الصعيدين الفردي والجماعي السواء، جوّاً قاتماً، يكاد تهريب، الابتسامة أو الفرح إليه أمراً في غاية الصعوبة، ومحاولة، شبه بائسة، ومن هنا، كان الكلام، في هذا الموضوع، عبارة عن محاولات أكثر منها صولات أو جولات للضحك في هذا الزمن، زمن العولمة المتوحش…
الحسُّ الساخر والفكاهي في أغلبه والذي تفيضُ به نبضاتُ هذا الدّيوان، ما هو إلا هجاء مقذع لواقع وجوديّ، هو بطبيعته قاس وعبثي، فهل يمكن اعتبار سخريتك من هذا الواقع، هروباً من مواجهته، أم أنها على العكس، مواجهة فعلية له وبسلاح ضدّي؟ أم الأمرين معاً؟
أستطيع ان أزعم أن في هذا النوع من استعراض المآسي، كما هي، كثيراً من الجرأة في قالب، يبدو فيه التهرُّب من الفواجع، تحت عباءة السخرية، أمراً واضحاً للوهلة الأولى، وأقول مؤكداً إنني، إنما أتصدّى – وبكل جرأة لعبثية هذا الواقع، فتكون السخرية الضاحكة والفكاهية، بمثابة الدرع الواقية من ردّات الفعل العنيفة من ناحية، وتأشيرة للدخول إلى عقل المتلقّي بحريّة يسهل قبولها لديه، مهما حملت من القساوة، لأنها تحمل في طياتها، بعضاً من الامتاع والمؤانسة، على طريقة الطيِّب الذِّكر أبو حيّان التوحيدي.
في إشاراتك الملحقة بكل واحدة منها، تقول إن هذه القصائد، أتتك عفو الخاطِر، وذلك نسبة لمناسباتها الخاصة، أي أن ولاداتها كانت شبيهة تماماً، بولادة القصائد الزجلية، المختصة عادة بعفوية التعبير، وتلقائيَّته، فما هي علاقتك إذاً بمنطلقات الشعر الزّجلي وبهذا الشعر نفسه، اللبناني طبعاً، وخصوصاً؟
أنا أحترم، جداً، الزجل وشعراء الزجل، وأعتبر أن هذا النوع من الأدب هو قمة من قمم الكلمة المحكية، ولا أظن – وخلافاً لما يزعم بعض شعراء – الزجل أنه وليد اللحظة دائماً، بل هو ذروة تجلّي الأفكار المخزونة في الذاكرة، التي ما إن تجد سبباً لأن تظهر، فإنها تظهر بذلك الشكل الجميل الذي يتجلى دائماً بتطريب محبّب، وأنا أحب الزجل اللبناني وأقدّره عالياً، وأعترف أنني حاولت، مراراً، أن أمارسه، في مناسبات حميمة، أما ما يربط هذا النوع من الشعر، بالشعر الزجلي، فهو العفوية، كما قلتَ أنتَ، والتلقائية وارتباطه، في بعض الأحيان بمناسبة ما، كالإخوانيات مثلاً، التي قد تكون نوعاً من الزجل بلغة فصحى وليست محكيّة. وأقول ختاماً إن الشعر هو شعر، سواء أصيغ بالمحكيّة أو بالفصحى.
سخريتك العميقة، تطال هنا، بعض المفارقات والمواقف التي صادفتها في مهنتك كمحام، في المحاكم التي شهدتها، فكيف توفِّق، إذن، بين الجدية القصوى لمهنتك في أثناء تأيدتك لها خصوصاً، وبين النَّفَسِ الساخر هذا، في حياتك العادية، وفي كتاباتك الإبداعية؟
إن النفس الساخر الذي أعتبره قمة للجدية، ساعدني كثيراً في مهنتي وإنني لا أخفي عليك أنني كنت أحاول دائماً – في مرافعاتي أمام المحاكم، أن أضفي على أية قضية أترافع فيها بعض السخرية، النابع من القضية نفسها، لأن أية قضية مهما بلغت من الخطورة، عندما تستعرض بشكل ساخر تفقد كثيراً من “هيبتها” إذا شئتَ مما يؤدي إلى تقلُّص العقوبة بمقدار انفراج فم القاضي، وهو يسمع أو يقرأ ما يقوله المحامي.
سيرة ذاتية
وفي شأن سيرته الذاتية يقول بيضون: انتقلت مع أهلي يافعاً إلى بيروت في العام 1956، وانتسبت آنذاك إلى الكلية العاملية، وتخرّجت في أوائل الستينات، لأدخل الجامعة بعد أن نلتُ شهادة الرياضيات التي كانت تؤهلني إلى دخول كلية العلوم في الجامعة اللبنانية. وقد حصلت على منحة من الجامعة، لمتابعة دراسة الكيمياء، إلا أنني شعرت قبل نهاية السنة الدراسية بأن متابعتي لدراسة العلوم أمر يتناقض مع مزاجي ورغباتي. ولقد كنتُ قد استدركتُ، قبل دخولي الجامعة، هذا الأمر فتسجّلت في كلّيتي “الآداب” و”الحقوق”، في نفس الجامعة في بداية العام الدراسي، والطريف أنني قررت في الشهرين الأخيرين من ذلك العام، الانصراف بكلّيتي إلى تهيئة امتحانات الحقوق، بعد أن نظمت قصيدة “فكاهية” تعرَّضت فيها لجميع الأساتذة في كلية العلوم، واعتبرتُها بمثابة وداع الكليّة. وقد كانت نتيجة الامتحان، في السنة الأولى في كلية الحقوق، بدرجة امتياز، الأمر الذي شجعني على متابعة دراسة الحقوق ونسيان ما تبقى من الكليات، ثم انتسبت بعد ذلك، إلى نقابة المحامين في بيروت، وعند اندلاع الحرب الأهلية غادرت لبنان إلى دبي، بعدما مُنحت ترخيصاً للمرافعة في دولة الإمارات العربية المتحدة وزاولتُ مهنتي وما أزال، في دبي وفي بيروت. وقد مارست كتابات المقالات، أسبوعياً في جريدة الخليج في الإمارات تحت عنوان كاريكاتير بالكلمات.
شذرات
-محام في لبنان ودولة الإمارات العربية المتحدة.
-أمين سر المجلس الثقافي للبنان الجنوبي سابقاً.
-رئيس لجنة الدفاع عن الحريات في لبنان سابقاً.
-أمين سرّ النجدة الشعبية اللبنانية سابقاً.
صدر له: كاريكاتور بالكلمات (دار بحسون). انتحار عنتر (أقاصيص وكتابات ساخرة – دار الفارابي). ديوك العولمة (كتابات ساخرة – دار رياض الريّس).