اتفقوا..! لم يتفقوا..!

ترجيحان يشغلان اللبنانيين، الأول يؤكد لك بأن المفاوضات الأميركية الإيرانية حول النووي سوف تفضي إلى إتفاق، والثاني يجزم العكس تماماً. وليس من الصعب ان تحدس خلف هذا “الانقسام” بالرأي بالمعسكرين اياهما، المؤيد لـ”حزب الله”، والمناهض له. كلٌ يورد حججه ومعلوماته وتقديراته والتحليلات التي استشفها من مثابرته على القراءة والمتابعة والمراقبة. وكلها جديرة بالانتباه والترقب والاخذ بالاعتبار. ولكن ما لا يشهره هذا الانقسام بالرأي حول هذه المسألة الدولية الإقليمية، هي اقوال باطنية، تسري في عروقه، في كل كلمة من كلماته، في كل حجة.

الباطن في الرأي الاول، القائل بحتمية الاتفاق الاميركي الايراني، هو تلك النفحة الانتصارية، ذاك التعالي الشبيه بالانتصار التاريخي ضد اسرائيل، ومفاده ما يلي: إذا حصل الاتفاق، وهذا ما نتمناه، فنحن سنكون أقوياء، سوف نفرض اجندتنا السياسية. أقوياء على من؟ ليس على إيران أو اميركا أو اسرائيل، ولا على “داعش”؛ إنما اقوياء عليكم أنتم اللبنانيين الآخرين، رافضي السلاح وحزبه ومقاوميه. قيمة القوة السافرة هي محرك هذا القول الباطني، قيمة “موازين القوى على الأرض”، العزيزة على قلب كل من يشعر بأنه يمسك بناصية القرار. الحجج الواردة في دعم هذا الترجيح الاول كلها حجج قوة: سيطرة ايران على القرار في كذا دولة عربية، عدم تأثر ايران بالعقوبات الاقتصادية، صمودها في سوريا، في لبنان، في اليمن… فعاليتها في العراق، وتفوقها على أميركا في إدارة الحرب ضد “داعش” الخ.

في الجانب الآخر، في المعسكر المعادي للممانعة والقطب الايراني، اللغة أقل باطنية، صوتها هامس، وهي أكثر براءة: لا لن يتفق الإيرانيون وأميركا، ولن تكونوا أقوياء علينا، لن تحصلوا على رئيس جمهوريتكم، لن تجرّونا الى المحور المقاوم. فنحن أقوياء بعرب يرفضون الإتفاق، بقوى اقليمية تراقبه بعصبية، بغرب ملتزم بحقوق الانسان وبدولة القانون، باميركا التي لا تستطيع ان تقبل بعد الآن اندفاعة التصدير المتنامي للثورة الاسلامية الخ.

ولكن خلف هذا التبارز بالسَيفين الايراني او الاميركي، هذا التمادي بالطعن المتبادل وبالقاء الأسهم النارية اللامعة، ثمة اضطراب فكري عميق حصل في عقول المتبارزين، لم ينتبهوا له لشدة حماستهم في مباراتهم المحلية. وهذا الاضطراب يصيب المعسكر المقاوم قبل خصمه المحكوم بسلاحه. فهذا السعي الحثيث للاستقواء بالاميركيين عن طريق الخيرات الايرانية، ينافي تماما القاعدة الفكرية التي قام على اساسها هذا المحور، وقوامها الاستشهاد بـ”محاربة المشروع الاميركي في المنطقة”، تلك الجملة التي تفوقت على كل اللازمات وكل افعال الايمان الاخرى، والتي سمحت لحزب مذهبي اصولي ان يلحس عقول يساريين علمانيين بل حتى ليبراليين، بعد عقول جماهيره الطائفية. الفرح باتفاق ايراني اميركي يحمي سلاح هذا المعسكر، هو آخر الانزلاقات الفكرية التي يتدحرج فيها. من دون ان يؤدي ذلك الى الغاء ببغائية “محاربة المشروع الاميركي…”. إلا اذا كانت هناك “حيلة”، كالتي نعهدها مع الايرانيين، الاذكياء الحاذقين، بأنه “سوف نستند، بعد الاتفاق، ان شاء الله، على تحالف اميركي ايراني لمحاربة اسرائيل”…

معسكر الرافضين لسلاح حزب الله، فوق سذاجة تقديراتهم، وترويجهم لفكرة التمسك الغربي بحقوق الانسان ودولة القانون، لا يردّون باقوى من ذلك: هم ضمنيا يتأملون بان يبقى هذا التوتر الغربي الايراني، لا لشيء سوى لاضعاف خصمهم المحلي المباشر، “حزب الله”. هم أيضا يعتمدون على الخارج، ونظامه الديموقراطي المثالي. لا يريدون النظر الى نكث هذا الغرب بأولى التزاماته الاخلاقية حماية، لمصالحه غير المعلنة.

للأميركيين مصالح وللإيرانيين أيضا. لا عيب في ذلك إلا عند اختصاصيي الآلات الحربية الإعلامية. ولكن العيب الأخلاقي والسياسي ان يتلطّى كل فريق “وطني” خلف صاحب المصلحة الأساسية كسباً لنقاط في حلبته، يضيفها بعد كل جولة، فيصيب تعطيلاً وفراغاً وشللاً. فنعيش نحن على وقعها، لاهثين، نردد من ورائهم “اتفقوا..! لم يتفقوا..!”، بانتظار معرفة ما هي مصلحتنا كأبناء بلد واحد…

http://www.almodon.com/opinion/152cad5d-5bfe-471a-96b3-9dc3de2c1269

السابق
«نفرتيتي ليفت» آخر صيحات عمليات التجميل لعام 2014
التالي
شكوك في كسب المعركة ضد الإرهاب