تداوُرٌ قد يكون ضاراً

ولد تعبير «تداور منصب رئاسة الحكومة» في إسرائيل المشلولة سياسياً بين الليكود والمعراخ في أواسط الثمانينيات، بوساطة الرئيس حينها، حاييم هرتسوغ. في الأيام والأسابيع الأخيرة عاد له المجد. وبات يسمع بوتائر متصاعدة في الدهاليز الطافحة بالسيناريوهات. والافتراض السائد في معسكر وسط – اليسار هو أنه من دون هذا الترتيب العبقري، سيكون فائق الصعوبة لرؤساء الأحزاب في معسكر «فقط ليس نتنياهو» القوي، ولكن المبعثر، خلق بديل واقعي لنتنياهو. والكلام السائد كان عن التداور بين رئيس أحزاب وسط – اليسار، اسحق هرتسوغ، لمن سيجلب مقاعد أكثر لمعسكر وسط – اليمين – موشي كحلون أم أفيغدور ليبرمان. وفي هذا منطق، في صناديق الاقتراع، وهذا ما يشيع أجواء جديدة، وتفاؤلاً، في معسكر ليس مؤهلاً لتحمُّل التفكير بولاية أخرى لنتنياهو – بينت.

وفعلاً، مساء يوم الأربعاء، في مجلس أرض إسرائيل الجميلة في تل أبيب تبخّرت هذه الآمال ظاهرياً عندما أعلن هرتسوغ وشريكته الجديدة، تسيبي ليفني، للشركاء المستقبليين أن ينسوا ذلك، وأن الدبّ الذي لم يتم اصطياده بعد بل لم يتم تحديد موضعه صار بين أيديهم.
لقد طبخ هرتسوغ وليفني عصيدة. فهل يؤمنون أن كحلون، الذي تمنحه الاستطلاعات 12 مقعداً وهو يحلق، وليبرمان الموجود في المكان نفسه، سيطأطئون رأسيهما أمام هذا الإملاء ولن يعرضوا مطالب لهما بعد 17 آذار، إلا إذا كانوا عباقرة أو حمقى.
لقد ألبس أحد ما ليفني وهرتسوغ ملابس متناسقة، باللونين الأبيض والأسود، لإضفاء مظهر جدي. وقد ظهرا كما لو أنهما فينسنت وجولس، القاتلان المأجوران في فيلم «أدب رخيص» بطولة جون ترافولتا وصموئيل جاكسون، في طريقهما لمهمة القتل اليومية. ولكن لم يكن واضحاً مَن هو المستهدَف بالقتل: خصومهما أم نفساهما. هرتسوغ ارتكب هذا الخطأ في نقطة حاسمة في الحملة، حينما كانت شعبيته حول مدى جدارته برئاسة الحكومة تقترب من شعبية نتنياهو.
ولكن حسابات ما بعد الانتخابات بسيطة: هرتسوغ سيحتاج لحوالي 36-40 مقعداً إضافياً لتشكيل حكومة، بافتراض أنه سيكلّف بتشكيلها. والجمع بين «هناك مستقبل» والحريديم الأشكناز قد يبدو إشكالياً. وكذا الجمع بين ميرتس وإسرائيل بيتنا، حتى في صيغتها الجديدة الأكثر اعتدالاً. ومن دون مقاعد نجلون وليبرمان ليس لهرتسوغ حكومة. وهما سيعرضان مطالب.
وصحيح أن ليفني وضعت إنذاراً على الطاولة. وقد تصرّفت هكذا أيضاً عشية الانتخابات السابقة، حينما أدارت اتصالات مع سلف هرتسوغ في قيادة حزب العمل، شلي يحيموفيتش، ومع يائير لبيد، رئيس «هناك مستقبل». فرئاسة الحكومة لديها ليست خياراً. إنها استحواذ شديد، شبه عضال. وهي مقتنعة أنها لو عادت إلى رئاسة الحكومة لعام أو عامين، فإن السلام لن يتأخّر وستجد كل مشاكل إسرائيل نهايتها. وكل هذا معلوم، لكن ما دفع هرتسوغ للقبول، لا يزال لغزاً. فقد هدّدته ليفني بمسدس فارغ. ولبيد، الغر عديم التجربة، رفض هذا العرض مطلقاً.
وقال أمس مصدر مطلع في القائمة الجديدة: «لا تنفعلوا أيها المعلقون المتذمرون. فما أعلن من مداورة أمس حصرية بين هرتسوغ وليفني، صحيح مؤقتاً. صحيح لبداية المعركة الانتخابية. وهذا يستقبل جيداً لدى الشبان والنساء، ويُوحي بالقوة والثقة بالنفس. ولكن عندما يحين وقتها، بعد أن ينال هرتسوغ التفويض، ويحبس سوياً مع ليفني لإدارة المفاوضات مع الباقين، ستوضع كل الأمور على الطاولة. وإذا طالب كحلون مثلاً بالتداور، فإن الأمر سيبحث بجدية. ولا أحد منا لديه نية للتنازل من أجل هذه المسألة».
ولاحقاً كان بالوسع التقاط أن شيئاً كهذا قد يحدث، حينما أعلن زعيم حزب العمل فجأة في مطلع الأسبوع، أنه من أجل استبدال الحكم، «ينبغي تخزين الذاتية». وأمس الأول روى أنه فهم للمرة الأولى كم أن الارتباط بينه وليفني ينطوي على قوة، حينما هبط يوم الجمعة الفائت في نيويورك، في طريقه لمؤتمر صبان في واشنطن. فتح هاتفه وتلقّى ردود فعل تشيد بصورته المشتركة مع ليفني في مطار اللد قبل الإقلاع.
وقريباً تم إبرام الصفقة بينهما بشكل نهائي في اليومين اللذين قضياهما سوياً في الفندق في العاصمة الأميركية. فخارج الفندق كان الجو بارداً، في داخله كان دافئاً ولطيفاً. والكيمياء بينهما ظهرت من بعيد.
وعندما عادت ليفني وهرتسوغ ورجالهما يوم الأحد إلى تل أبيب، بدآ يرسلان رسائل واتسآب مشتركة. وتم التنسيق عبر البرنامج. ومساء يوم الأربعاء، قبل ساعة ونصف من المؤتمر الصحافي وصلت ليفني لبيت هرتسوغ، غير البعيد عن بيتها. وتبادلا الخطابات، وتعانقا، وشربا نخب الاتفاق وخرجا للإعلان عنه. قبل ذلك هاتف هرتسوغ قادة حزب العمل وأطلعهم على الاتفاقات. لكنه نسي إبلاغهم بأمر التداور، وأن حزب العمل سيخوض الانتخابات باسم آخر.
ويسجل في حق هرتسوغ أنه لا يبذل جهداً لإنكار أن ليفني «بَلَفَتْه»، رغم أنه يستخدم تعبيراً مهذباً في وصف ذلك في أحاديثه الخاصة. وهو فخور بنجاحه في ثني ليفني عن مطلبها ضمان خمسة مقاعد لرجالها في القائمة المشتركة. وقد اكتفت بثلاثة فقط حتى المكان العشرين. فأي تضحية قدمت: مئير شطريت، أليعزر شتيرن ودافيد تسور. إنها غداً لن تتذكر أسماءهم.
وقال هرتسوغ: «كنت أعلم أنني سأواجه انتقادات لهذه الخطوة. ولكن لا تنسوا أن أحداً لم يكن قبل أسبوع يمنح حزب العمل فرصة لتشكيل الحكومة المقبلة. واليوم واضح أن المسألة صارت جدية. هذا الربط، بما فيه التداور الذي تشير استطلاعاتنا إلى أنه كسر محرمات. ولا مشكلة عندي في التنازل عن عامين في رئاسة الحكومة، لأنني لستُ مثل لبيد لا شيء عندي سوى نفسي». سأله أحدهم: «هل آلمك هذا التنازل؟» ردّ بصراحة: «بالتأكيد. أي سؤال هذا. بالتأكيد لم يكن الأمر سهلاً. ولكنني لم أتردّد. أنا مقتنع أن هذا هو الشيء الصائب».
ربما. علينا انتظار الاستطلاعات والحملات والتقلّبات. والصحيح أنه لا ريب في أن الارتباط بينهما كان نوعاً من الكيمياء. فمن 13 مقعداً، قفز حزب العمل إلى 20. وقد اتحدت جثة سياسية، منحتها الاستطلاعات بصعوبة 4 مقاعد، على حافة نسبة الحسم، مع مريض عضال، تدهور إلى 13 مقعداً، فحدثت معجزة.
وفكرة للختام: ماذا كان سيحدث لو عقد هرتسوغ مؤتمراً صحافياً يعلن فيه: «عرضت على ليفني نصف مملكتي: المكان الثاني، وزيرة الخارجية، مديرة المفاوضات السياسية، والقائمة بأعمال رئيس الحكومة وأربعة مقاعد. ولكن المفاوضات بيننا لم تنجح بسبب إصرار ليفني على التداور. وأنا آمل أنه حتى موعد إغلاق القوائم سوف تعود لنقيم سوياً المعسكر الصهيوني الذي يقود إلى اسقاط نتنياهو وتبديل الحكم».
مثل هذا الخطاب كان سيثبت أن هرتسوغ قوي ولديه أعصاب فولاذية ومتّزن. وفي الوقت نفسه كان سيقسم المعسكر الأبيض، مع ليفني وكانت ستضطر للتنازل. مثل هذه الخطوة كانت ستحقق لهرتسوغ إنجازاً كبيراً.

السابق
عنصرية هناك، «داعشية» هنا
التالي
فوز حازم شريف دون رفع علم بلاده