«رفسنجنة» إيران

محمد السماك

الرفسنجنة، نسبة إلى آية الله هاشمي رفسنجاني، تعني أمرين أساسيين: الأول هو قطع دابر التطرف المذهبي الذي يتجسد في شتم صحابة رسول الله وأمهات المؤمنين. صحيح أن رفسنجاني ليس المرجع الديني الإيراني الوحيد الذي يدعو إلى ذلك، فقد سبقه آخرون، وفي مقدمتهم مؤسس الدولة الإسلامية آية الله الخميني نفسه.

كذلك، فإن الإمام علي خامنئي الذي تولى قيادة الدولة ـ مدى الحياة منذ العام 1989 ـ ندد أكثر من مرة بظاهرة شتم الصحابة، كما ندد بالاحتفال بذكرى اغتيال الخليفة الثاني عمر بن الخطاب.
إن الغلو في التطرف المذهبي ظاهرة طارئة على الأدبيات الدينية الإيرانية (ولا نقول على الأدبيات الشيعية). كان الشتم ليزيد بن معاوية وحده. وربما يكونون على حق في ذلك. ولذلك كان الشعار الذي رفعه الشيعة العرب بالنسبة للشتم هو «يزيد ولا تزيد».
إن العودة إلى هذا الأصل ـ إذا كان لا بد من الشتم (والشتم ليس عبادة) ـ تشكل خطوة أولى وأساسية لسحب فتيل متفجرة الصراع المذهبي وتعطيلها.
أما الأمر الثاني فهو تطبيع العلاقات الإيرانية ـ العربية على قاعدة الاحترام المتبادل وتحت مظلة الأخوة الإسلامية.
ما كان للعالم العربي ان يقلق من المشروع النووي الإيراني لو كانت العلاقات الإيرانية ـ العربية سليمة، ولو كانت الأخوة الإسلامية بينهما قائمة على احترام الاختلافات الاجتهادية في تفسير وفهم النص القرآني الواحد.
لقد دعا القرآن الكريم المسلمين جميعاً إلى الاعتصام بحبل الله وإلى عدم التفرق. والقرآن الكريم لم يدع المسلمين إلى عدم الاختلاف. ان هناك فرقاً شاسعاً بين التفرق والاختلاف. يمكن ان نتفرق ونبقى على ايمان واحد. لا توجد جسور تجمع بين المتفرقين. غير ان ما يقرّب بين المختلفين جسور صلبة تقوم على قاعدة الحق في الاختلاف.
ان ثقافة احترام الاختلاف الفقهي والعنصري (وحتى الديني) تحفظ الوحدة في التنوع والتعدد، وذلك على قاعدة ان الحكم لله، وانه وحده يحكم بيننا يوم القيامة في ما كنا فيه مختلفين. وبالتالي، ليس لأي منا سلطة البحث في ضمير الآخر. أما التفرق الذي يقوم على ثقافة احتكار الحقيقة وتخطئة الآخر المختلف إلى حد تكفيره، فإنه يقتلع شجرة الوحدة من جذورها الايمانية العميقة. الاختلاف ايمان. والمذهبية وجهة نظر في إطار الايمان. والقاعدة الفقهية العامة للإمام الشافعي تقول إن «رأيي صحيح يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب». وهذا يعني ان الاجتهاد غير مقدس، لأنه ليس وحياً من عند الله، ولكنه تَجَلٍّ من تجليات الفكر الإنساني المفتوح على الخطأ والصواب. ان للمجتهد أجرين إذا أصاب، أجر الاجتهاد وأجر إصابة الحق. وله أجر واحد إذا اجتهد وأخطأ، وهو أجر الاجتهاد. من هنا، فإن شجرة الايمان هي شجرة متعددة الأغصان بتعدد الاجتهادات، ولكن جذعها واحد.
أما التفرق فإنه انفصال كامل عن شجرة الايمان وهو خروج منه وخروج عليه.
لا مصلحة قومية لإيران، ولا مصلحة إسلامية لها في معاداة العالم العربي. ولا مصلحة قومية للعرب ولا مصلحة إسلامية لهم في معاداة إيران.
لا إيران، ولا العالم العربي يفتقر إلى عدو مشترك يكون حافزاً لهما للتفاهم والتعاون. ثم انهما وبحكم الإسلام الذي يقولان انهما يلتزمان به، مدعوان إلى التفاهم والتعاون. ومن مصلحة كل منهما تحقيق ذلك.
الرفسنجنة تعني العمل بهذين الأمرين. فالرئيس رفسنجاني عندما انتقد السياسة الإيرانية الراهنة استند في ذلك إلى الآية القرآنية الكريمة التي تحذر المسلمين من التنازع، لما يسببه التنازع من فشل وضعف «فلا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم».
ولقد كان من الجرأة الايمانية والوطنية ما حمله على القول: «الا اننا تجاهلنا هذه الآية وقمنا بإثارة الخلافات بين المسلمين الشيعة والسنة».
وبالفعل، هناك خلاف من هذا النوع المدمر والخطير في البحرين. وهناك خلاف في اليمن، وفي شرق السعودية، وفي العراق، وفي سوريا، وفي لبنان، وفي أفغانستان. وهناك تخوف من امتداد الخلاف حتى إلى عمق افريقيا.. والهند.
لم نعد نحتفل بأعيادنا الدينية معاً. ولم نعد نمارس حتى عباداتنا معاً، لا في الصوم ولا في الصلاة. فمَن المستفيد من كل هذه الخلافات المصطنعة ومن توسيع رقعتها وتعميق جذورها؟
لا إيران قادرة على إلغاء العرب. ولا العرب راغبون في إلغاء إيران. لا السنة يحتكرون الايمان، ولا الشيعة يحتكرون الإسلام.
من هنا فإن الإيغال في هذه الخلافات إلى حد التنازع، لا يؤدي إلا إلى انعاش حركات التطرف هنا.. وهناك. ولقد وضع رفسنجاني اصبعه على جرح العلاقات العربية ـ الإيرانية والعلاقات السنية ـ الشيعية عندما قال: «ان الاعمال المثيرة للفرقة بين المسلمين نتيجتها الوصول إلى «القاعدة» و»داعش» و»طالبان» وأمثال هذه الجماعات». فأي ضمير وطني أو ديني يتحمل مسؤولية دفع العالم الإسلامي إلى حافة الانتحار الذاتي؟
تقول دراسة دولية ان الإنتاج العلمي في إيران ازداد بنسبة 75 في المئة خلال العقد الماضي. وان 55 في المئة من شبابها يلتحقون بالجامعات. وان في الحكومة الإيرانية الحالية عدداً من حملة الشهادات العليا «دكتوراه دولة» من متخرجي الجامعات الأميركية أكثر مما في الإدارة الأميركية الحالية للرئيس أوباما.
وتقول الدراسة أيضاً ان الدخل الفردي في إيران ارتفع برغم العقوبات الاقتصادية التي تتعرض لها ـ من 4400 دولار في العام 1993 إلى 13,200 دولار هذا العام.
ان إيران هذه يمكن ان تكون قوة رائدة في الشرق الأوسط وفي العالم الإسلامي. ولكنها لا يمكن ان تكون قوة قاهرة لا في الشرق الأوسط ولا في العالم الإسلامي.
مؤلم أن يشعر مواطن عربي بالقلق عندما تعلن إيران عن انتاج سلاح جديد، وكأن هذا السلاح سوف يوجه إلى صدره يوما ما. باستطاعة إيران ان تقلب هذا الشعور رأساً على عقب إذا «ترفسنجنت». بحيث يشعر كل مسلم، وليس كل عربي فقط، ان سلاحها قوة مادية ومعنوية جديدة للدفاع عن حقوقه وعن كرامته.. وليس خطراً جديداً يهدد حقوقه وكرامته.
ولكن «الرفسنجنة» ليست حركة في اتجاه واحد. لا بد من حركة تتقبلها وتقابلها في الجانب العربي أيضاً. ويشكل خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز القوة الدافعة لهذه الحركة. ويتمثل ذلك ليس فقط في صداقته بالرئيس رفسنجاني وفي تأييده لمبادراته وتشجيعه عليها، ولكنه أكثر ما يتمثل في المبادرات التي اتخذها الملك نفسه بإنشاء مؤسسة للحوار الإسلامي السني ـ الشيعي وفي مقاومته المبدئية والعملية للحركات الإرهابية التكفيرية التي تعيث فساداً وتخريباً في العديد من المجتمعات العربية. قد تكون «الرفسنجنة» مجرد حلم ليلة صيف. ولكن أليس من حقنا أن نحلم؟

http://assafir.com/Article/18/388350

السابق
الشيرازيون و«طقسنة» التشيّع
التالي
القوة الفنلندية تحتفل في الطيري