التفكّك المهين لمنظومات الفكر السياسي العربي  

قليلون من المفكرين السياسيين في المشرق العربي، مَن أولوا مسألة تأخر البنية المجتمعية العربية الأهمية التي تستحقها. وقليلون مَن قدموا نقداً للتيارات السياسية التي سادت في المنطقة العربية في القرن الماضي.

لقد استطاع المفكر ياسين الحافظ أن يبذل محاولات متميزة ومعمقة لوضع الفكر السياسي العربي على سكة الوعي المطابق، وأن يؤمن له من خلال كتاباته وممارسته السياسية اليومية التي لم تتوقف، ذخيرة فكرية – سياسية لو قيض لها أن تتواصل بشكل أكثر فاعلية مع حركة الجماهير العربية، وأن تنمو وتتبرعم، لاستطعنا تفسير الكثير من التظاهرات “الصادمة” والمؤلمة التي ما زال الفكر السياسي التقليدي والتقليدوي يعزوها إلى”أعمال الشياطين” وامتحانات المحن والكوارث، وإلى “الخارج” المتآمر على أمة ما زالت تعيش بدلالة الماضي، ولم تنتقل بعد لتلمس الحاضر بشكل مناسب لتخطو نحو المستقبل، وزوادتها مليئة بمفاهيم الحداثة والعصرنة والديموقراطية، وتقودها نخب تخلصت من “عباءات الأطلال القديمة” والتنظيمات السياسية التي تآكلت وسُقطت أمام الامتحانات القاسية، ومن تراث “السلف الصالح”.

في صورة الأوضاع الحالية، وفي ظل التداعيات المخيفة والقاسية التي لحقت بما حاولت “النخب السياسية العربية” أن تبنيه، والانهيارات البنيانية في المجتمع العربي، والتفكك المهين لمنظومات الفكر السياسي الذي طفا على السطح و”الرذائل” التي تكشفت عنها أنظمة الاستبداد. في ظل كل هذا لابد من وقفة تذكر أمام فكر الراحل ياسين الحافظ.

في منهج مناقشاته المختلفة، كان القاسم المشترك الأعظم هو التأكيد على ضرورة امتلاك النخب العربية “الوعي المطابق للحاجة” وعلى ضرورة نقد الجذور الفكرية والسياسية للهزائم العربية المتكررة. وبالعودة إلى مداخلته في لقاء “المفكرين العرب” في بنغازي (1973)، تصدى للفكرين اللذين كانا مهيمنين على الساحة السياسية العربية.

الأول: التيار الإسلامي التراثي السلفي الذي يكره الحاضر ويخاف من المستقبل، ويتطلع بشغف وحنين إلى تقديس الماضي، ويستحضر “الأرواح” من 1500 عام، ورغم محاولات التجديد الإسلامي، فإنه عجز عن مواجهة تحديات العصر الجديد كلياً، وكان وما زال معرقلاً للتطور الفكري النهضوي الحديث والعصري.
الثاني: التيار القومي العربي شبه التقليدي والتلفيقي في منهجه والذي حاول أن يبقى على خيط ارتباط بالتراث ففشل، وحاول أن يحاكي المدنية الغربية ففشل أيضاً لأنه لم يستوعب مفاهيمها الشمولية فكان انتقائياً.

بالطبع، هزيمة حزيران 1967 “استفزت” ياسين الحافظ فصرخ يقول “لا ديموقراطية حيث لا حياة سياسية ولا حياة سياسية بالطبع حيث لا شعب مسيس يمسك مصيره بيديه”.

وتناول في أكثر من مجال، الأنظمة التي تحتكر شؤون السلطة وتمارسها بمعزل عن الشعب وبعيداً عنه وتبعاً لمصالحها وأهوائها، وعزا ذلك إلى ضآلة الجسم السياسي العربي.

في منظوره تجلت الديموقراطية بمفهوم حديث، إذ اعتبر أن البنيان أو التنظيم السياسي المؤثر والحديث هو الذي يجعل من ظاهرة الاستبداد مستحيلة وأن الديموقراطية ترتكز على أربعة أعمدة: مبدأ الانتخاب الحر، وتقسيم السلطات، والصحافة الحرة، والأحزاب الحرة. وفي رده على دعاوى السلطات الاستبدادية، بأن الشعب العربي غير جاهز للديموقراطية كان يردد “أن الشعب يتعلم السياسة بواسطة الديموقراطية ويقوى بها”، وأن الجماهير بقيت خارج العملية السياسية في فترة ما بعد الاستقلال وما زالت، وخارج صيرورة التطور والنهضة ولم تكتسب البنية المجتمعية العربية الفسحة المناسبة لبناء أطر ديم,قراطية ومنظمات المجتمع المدني المختلفة كي تستطيع أن تنقل السياسة إلى المستوى الشعبي المناسب، وهذا ما أشار إليه ياسين عندما وصف الجسم السياسي العربي بالضآلة. وبسبب غياب مفهوم “الوعي المطابق للحاجة” وغياب النخب السياسية العربية الحديثة وافتقار الأنظمة التي تولت الحكم بعد الاستقلال للإستراتيجية واضحة لتحقيق النهضة الشاملة، بقيت هذه النخب تدور تدور في مكانها، وبين محاولاتها “لاستنباط” النظريات الاقتصادية والإيديولوجية والثقافية ومحاولات تطبيقها، فمنيت بالفشل تلو الآخر، وبقيت الهياكل التقليدية للمجتمع صامدة أمام هذه المحاولات لا بل تعمقت، فكتب في الكراس الذي صدر عن حزب العمال الثوري العربي لمناسبة هزيمة حزيران: “الانعتاق من أطر المجتمع التقليدي يحوّل الإنسان من مجرد كائن حي يعتبر العالم أمراً قائماً يتكيف معه ويخضع للطبيعة ويرضى بها كما هي، إلى إنسان يعمل للهيمنة على العالم وعلى الطبيعة ويجهد لتغييرها وتحسين ظروفه عبر هذا التغيير”.

مع ما نراه اليوم وما تكشف عنه الأحداث التي تجتاح الدول العربية المختلفة، نلمس بوضوح أن الأنظمة لم تبنِ مشروع – الدولة الوطنية ناهيك عن الدولة القومية، وتلمّس ياسين الحافظ هذا الواقع فكتب عام 1977 “ينعى الدولة – القومية باعتبار أن مشروعها تقهقر إلى مرحلة ما قبل الدولة، إلى الدولة العشيرة – الطغمة، الدولة – الطائفة، ورأى تجليات ذلك في الانفصال بين الحاكم والشعب، وتنامي الطابع الشمولي المحافظ للأنظمة العربية، والتوسع المذهل في فساد الدولة بعدما ارتدى طابعاً سياسياً مملوكياً، أي أنه لم يكن مجرد فساد أخلاقي بل كان تعبيراً عن انفصال الحكم عن الشعب.

واليوم، وفي ظل الهزائم التي مني بها الفكر والإيديولوجيا والممارسة التي صاغت مفاهيم “الدولة” تفككت البنى التي حرصت الأنظمة العربية على “قولبتها” وحمايتها وترسيخها والتي اعتمدت بالأساس على بنية أنظمة شمولية، أقلوية، عسكرية، واستبدادية، وتكشف النسيج الوطني في معظم الدول العربية عن هشاشة ووهن كبيرين. وتمترست طبقات الشعب على مختلف شرائحها خلف الطوائف والعشائر وجعلت من شيوخها ورهبانها وأوليائها “المرشد والهادي”، وسقطت المقولات التي حاولت أن تكون دعائم لبناء العمارة العربية التي بدورها تداعت وانهارت بشكل سريع ومؤلم. في كل ذلك لا بد من وقفة عند المفكرين، وكان أبرزهم وأكثرهم شمولية الراحل ياسين الحافظ، الذين نبهوا وحذروا من تلك البنى التي قامت تحت اسم “الدولة الوطنية” والتي تكشفت الأحداث التي نراها حولنا، أنها دول كرتونية هشة ورخوة تارة واستبدادية حتى النخاع تارة أخرى.

السابق
مؤشّرات بارزة مُقبلة للاتفاق الخليجي بين الرعاية السعودية واستعادة دور مصر
التالي
كلّ السبل تقود إلى استبعاد الأسد