يستوقفني الكثير من الظواهر المتخلفة في فهم العديد من المسلمين لجوهر ديانتهم، على مختلف مشاربهم وفرقهم، حتى تخال نفسك أمام جماعات همجية، لا تربطها أي صلة بالمفاهيم الدينية والفقهية والاجتهادية بما يعتقدون.
الإسلام، واحة سلام ومحبة وتقوى بما يأمر به من روابط سلام بين كافة أطياف المجتمعات المختلفة، ويرسو على ضفاف المحبة للآخرين بما تعنيه هذه الكلمة من معنى، وما التقوى إلا مفهوم مناعة وأخلاقية للنفس البشرية، وتقوية الحصانة عن دناءة النفس وتقييد الانفعالات العصبية والتخربية، ومنع الاندفاعة الشريرة وتهذيب النفس وتقوية التعقّل، ما يمنع الانحدار إلى الغريزة المميتة التي تقتل الروية والصير وتلجم الأفكار الشيطانية والعبثية عند الفرد.
إن الظواهر التي نراها اليوم في مجتمعاتنا العربية لهي دلائل ظاهرة، لهذه العقول المتحجرة المغلقة في براثن الظلامية المطلقة المطبقة على العقول والنفوس، حتى تبني ستاراً حاداً من التخلف والتحجر في كهوف مظلمة لا ترى نور الله الواحد الأحد الخالق لهذا الكون، بكل ما فيه من عجائب وخلائق وبشر وحجر.
هذه الفئات الخارجة من كهوف الظلام لا ترى نور الله الجبار القادر، والفاعل على كل شيء والآمر بكل شيء، لا تملك هذه الفئات من مفاهيم المحبة والسلام والتقوى إلا الجهل والتخلف والتقهقهر والظلامية والتوحش والتمثيل بالنفس البشرية والتسلط والإرهاب والتحنط والجماد كأنهم حجارة جامدة لا تفهم ولا تنطق ولا تدري، ولا تدرك، تهوي حيث تهوي تقلبات الطبيعة فليس من العبث أن تتحنط هذه الجماعات بمفاهيم لا تمت إلى الشرائع والمذاهب والأديان السماوية. ولا رابط لها بكل ما يمت بصلة إلى دعوة الله تعالى إلى خلقه بما يمدهم بالاستمرارية ودوام العيش وحرية المعتقد بما يتلاءم مع الدعوات السماوية. من عجائب هذا العصر أن ترى هذه الشريحة من البشر معزولة عن أبسط القواعد والمفاهيم الدينية والفكرية والسماوية، فالتقوى في الإسلام لله تعالى، هو أن نتقرب إلى الله بالدعاء للغفران والتسامح والرحمة، لوالدي وأحبتي وأن يمدني بالصحة والعافية ويقوي عزيمتي ويقربني منه، ويهذب نفسي ويحد من شراهتها والصبر ولإدراك ويقوي م وينوّر طريقي ويشفع لي هفواتي وأخطائي تجاه الآخرين…
ويمنعني من الانحدار نحو الجشع والطمع، وحسن السلوك بما يترك أثاراً طيبة في المجتمع الذي أعيش فيه والمحيط الخاص والمقرّب بحسن التصرّف والسلوك. إن الله عزّ وجل خالق هذا الكون من بشر وحجر. وأمد هذا الكون بما فيه من سبل الحياة والاستمرارية، لم يفوّض أحداً بالحكم والأمر والتسلط، بل أرسل الأنبياء وأعطى المثال الصالح والسلوك الطيب لتهذيب البشر وإهدائهم للسلام والمحبة والخير، لما يؤمن الاستمرارية في العيش الكريم ودعا بلسانهم إلى كلمة سواء، والعدالة والإنصاف وحسن الجوار بما يضمن الحرية لكل إنسان، ودرء المظالم والمفاسد بحسن التصرف وصفاء الدعوة، وما قوله تعالى للرسول الأعظم: إنك لعلى خلق عظيم، وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين، وليس نقمة وظلاماً وبطشاً وتخلفاً.
ما هذا البلاء العظيم الذي ابتلى المجتمع بفئة لا تعرف النور ولا تدرك الفهم والعلم والمحبة، شياطين هذا العصر متحصنة بالتخلف والانحطاط الخلقي والفساد المادي والجهل الديني، لا مفاهيم ولا منطق كأنها أحجار جامدة متحجرة لا نفع لها ولا مردود، فالأمراض معشعشة في أجسامهم والتخلف من عقولهم سينقرضون من تلقاء أنفسهم لأنهم خارج التغطية والتاريخ، منعزلون متوحدون، جاهلون فإن الجهل يقتل صاحبه، فأي إله يدعون وأي دعوة يبثون وأي فكر ينشرون، فبشّر هؤلاء الزمرة الطارئة بأنهم زائلون، والعصر هذا ليس عصرهم والدين ليس دينهم، ليسوا ببشر وهم أقل قيمة من الحجر، عصائب باطل يتدحرجون كحصى تتقاذفهم الرياح، وحوش كاسرة تتآكل مع الزمن وتنهش لحوم بعضها بعضاً، وثمة أناس يحرك هذه الوحوش كما يشاؤون ويصنعونها حتى إذا انتهى أمر مهمتها، أفرادها ذهبوا بأرجلهم إلى مزابل التاريخ وعالم النسيان حتى التاريخ يخجل من ذكرهم والأرض ترفض احتضان نجاستهم.
إن هذا العصر رغم هذه المفاسد، فإن الشعوب المتنورة تأبى العيش في قفص التخلف، وتأبى الانحدار إلى مدارك المظاليم والساكتين والمستسلمين لواقع المظالم والمفاسد والبطش والتسلط. بل تعيش عصر التنوير والتعدد والمحبة والسلام والعدالة والإنصاف، إنه عصر المؤسسات.
(عن مجلة شؤون جنوبية)