نهاية «نهاية التاريخ»

على رغم تشاؤم عنوان كتاب فرانسيس فوكوياما الجديد «النظام السياسي والأفول السياسي: من الثورة الصناعية إلى عولمة الديموقراطية» (صادر عن دار فرّار، ستروس أند جيروكس)، يُسلط الجامعي الأميركي الضوء على جوانب إيجابية في أحوال العالم: بين 1970 و2008 تضاعف حجم الثروات العالمية أربعة أضعاف. وفي 1974، اقتصر عدد الدول التي تنتهج نظاماً ديموقراطياً على 40 دولة، وارتفع اليوم إلى 120، أي دولتان من كل ثلاث دول. وعام 1989 تعاظمت وتيرة التزام الديموقراطية اثر سقوط الشيوعية، ولفظ أميركا اللاتينية جنرالاتها، ومضيّ أفريقيا على طريق التقدم والتطور وانعقاد بعض ثماره. لكن العالم يمر في مرحلة «ركود ديموقراطي»، كما يقول لاري دايموند الخبير في شؤون الديموقراطية والأستاذ في جامعة ستانفورد.

ولكن ماذا وراء الركود هذا؟ في الجواب من اليسير استبعاد الدول المتسلطة، سواء كانت روسيا بوتين أو فنزويلا شافيز الراحل أو دولاً نفطية. فهذه الأنظمة مدينة في ازدهارها إلى الريع النفطي وهي في غنى عن دعم طبقة بورجوازية متعلمة. وسرعان ما انتهى «الربيع العربي» إلى خيارات انتخابية ضعيفة الصلة بالليبرالية، كما حصل في مصر. وينبه فوكوياما إلى أن إرساء ديموقراطية مستدامة في أوروبا اقتضى مرور قرن على «ربيع الشعوب» في 1848.

ولفظت الصين النظام الماركسي. وهي تلفظ، كذلك، إلى اليوم نموذج الديموقراطية ودولة القانون الغربي. وتحسِب أن في وسعها التطور في ظل جهاز حكم استبدادي، كما فعلت طوال قرون. لكن النظام الصيني يجبه اليوم معضلة. فالتوجه نحو التزام نظام ليبرالي هو صنو المغامرة بانفصال التيبيت وإقليم شينغيانغ المسلم وانقسام البلد إلى قسمين: مناطق ساحلية ثرية ومناطق الداخل الفقيرة. والبديل هو الصدوع بالتوتر الاستبدادي والقومي الناجم عن سياسات شي جينبينغ. وقد يلد التوتر هذا ثورات. ويلتف فوكوياما حول المعضلة، ويجزم في جواب سؤاله عما إذا كان الغربيون أم الصينيون هم الذين سيصوغون في العقود الخمسة المقبلة نموذج الغد- المستقبل بأن الصين لن تكون صاحبة مثل هذا النموذج، ولن يفلح الإسلاميون في صوغه.

«أفول سياسي»

خبا بريق النموذج الديموقراطي، ولم يعد يتسقطب شعوب العالم. وصار أهون الشرور. والديموقراطية لا تختزل بتنظيم انتخابات. ويُفترض بالأنظمة السياسية أن تنزل على طموحات مواطنيها. ولا سبيل إلى ذلك من غير بروز طبقة سياسية مسؤولة ودولة قانون أو دولة على أقل تقدير. وغالباً ما توصف الهند بأنها «أكبر ديموقراطية في العالم»، لكنها تفتقر إلى كل مقوماتها (التزام القانون وتلبية طموحات المواطنين…). فثمة دعاوى قضائية ضد ثلث المسؤولين المنتخبين؛ ووتيرة عمل المحاكم بطيئة، فلا تقوم قائمة للكلام على دولة قانون فيها. وفي بعض المناطق، «يتسرب» نصف المدرسين من الصفوف، ويتركون التـــلاميذ من غير مـدرس.

والبرازيل التي أفلحت في طي الفقر المدقع يتعثر جهاز الحكم فيها والطبقة السياسية في مواكبة بروز طبقة وسطى ترفع لواء مطالب وحقوق، كما أظهرت اضطرابات 2012 وأفول حزب الرئيس السابق لولا.

ويوجز فوكوياما الظاهرة هذه بالقول: «ليس مدار المشكلة إمساك انظمة استبدادية بمقاليد السلطة فحسب، بل مردها كذلك إلى تقهقر حال الديموقراطيات. وهو لم يسلط الضوء قبل 25 سنة على الظاهرة التي يتناولها اليوم، أي الأفول السياسي. ويوجه الاكاديمي سهامه إلى النموذج الأميركي: فعلى رغم أنه لم يفقد جاذبيته الاقتصادية، خبت جاذبيته السياسية. فالنظام هذا مؤتلف من سلطات متضادة من أجل الحؤول دون بروز نظام استبدادي. لكنه انزلق إلى نموذج يسميه فوكوياما «فيتوقراطي»، أي نموذج نقضي (إجهاض أو نقض كل فريق ديموقراطي او جمهوري مشاريع الفريق الآخر) يصيب الحكم بالشلل. والنظام «الفيتوقراطي» الأميركي لا يرسي المساواة بل يفاقمها. ويستشهد فوكوياما بتوما بيكيتي الذي لفت انتباه الاميركيين إلى هيمنة الأثرياء (البلوتوقراطية) على النظام الأميركي. والتآكل السياسي يصيب كذلك الاتحاد الأوروبي، فنموه ونقل الصلاحيات السياسية من المستوى الوطني إلى بروكسيل يعظم أوجه الشبه بين النظام الأوروبي ونظيره الأميركي. وفوكوياما يقارن العالم بسلّم متحرك تُتسلق درجاته لبلوغ «غرال»، النموذج الدنماركي البهي. ودول الشمال مدعوة إلى تجنب الانزلاق إلى أسفل السلم. ولا شك في أن التاريخ لم يطوَ بعد.

 

السابق
ابراهيم: ننتظر شروط الخاطفين وهم يرفضون تسليمها الا عبر الوسيط القطري
التالي
لماذا كوباني… وليس نحن!