إسرائيل فقدت سيادتها في القدس

ليست رائحة صنوبر، وإنما بخار وقود هو ما يملأ هواء الجبال النقي كخمر في عاصمة إسرائيل في العامين الأخيرين. فغياب فرض النظام في الأحياء العربية سوية مع الخلط المتزايد وغير القابل للفصل بين اليهود والعرب يجلب القدس إلى حافة الانفجار. وإذا اشتعل بخار الوقود، فإن هذا الانفجار قد يشعل بعده الضفة الغربية كلها.
هناك من يضرب بتراكتور، ومن يضرب بسيارة، وعمليات الدهس كانت على الدوام وسائل مرغوبة لدى المخربين المقدسيين. فهذا سلاح متوفر يملكه كل من لديه رخصة قيادة، وفي هذه المدينة لا نهاية للأهداف. فقط أَدخُلُ السيارةَ ومثل عبد الرحمن الشلودي، المخرب من سلوان، وأصعدُ إلى الرصيف واضغط على دواسة البنزين.
وتدهور الوضع الأمني في القدس لم يبدأ مؤخرا. فمنذ عامين يعيش سكان الأحياء الشرقية في المدينة مثل التلة الفرنسية وتلة المندوب السامي في أجواء إرهاب. صحيح أن الانشغال المكثف من جانب منظمات اليمين بالحرم القدسي وبتوسيع المستوطنات اليهودية في قلب الأحياء العربية فاقم التوتر، ولكن ينبغي البحث عن أسباب ما يحدث في القدس في فترة ما قبل عقد من الزمان، أيام رسم مسار الجدار الفاصل، أو ما سمي بـ”غلاف القدس”.
وإذا كان هناك شيء مؤكد لم يفلح الجدار في خلقه فهو الفصل بين اليهود والعرب في المدينة. فمسار الجدار الذي أقيم في القدس الكبرى أحاط بالكثير من الأحياء العربية وضم إلى إسرائيل حوالي 250 ألف فلسطيني لا رابط البتة بينهم وبين الدولة. فضلا عن ذلك، في السنوات التي تم فيها بناء الجدار الفاصل في القدس جرت عملية هجرة مكثفة للفلسطينيين إلى الأحياء في الجانب الغربي من الجدار. فاحتمال الحصول على بطاقة هوية زرقاء ودفعات التأمين الوطني شجعت فلسطينيين على المسارعة إلى تحديد بيوتهم في الجانب الإسرائيلي من الجدار الفاصل.
وعثر الفلسطينيون الواصلون للقدس على حل سريع لضائقة السكن: سارع العرب في أحياء غرب الجدار إلى بناء عمارات متعددة الطوابق من أجل إسكان المقدسيين الجدد. وكانت النتيجة أن المدينة التي تم توحيدها غدت مقسمة أكثر من أي وقت مضى. فجدار الفصل خلق خليطا من الأحياء العربية واليهودية، بشكل سيكون أصعب من أي وقت الفصل بينهما. والاحتكاك ليس فقط لم يعزز التعايش، إنه فقط زاد من الاغتراب بين المجتمعين.
وإسرائيل التي كان يفترض أن تفرض سيادتها على أحياء غرب الجدار، فقدت بشكل دؤوب السيطرة على ما يجري في شعفاط والعيساوية وسلوان وبيت حنينا. وغدت الأحياء العربية غربي الجدار مجرد جزر خالية من السيادة. كل محاولة لفرض القانون الإسرائيلي فيها تطلب الدخول بقوات كبيرة جدا من الشرطة وخلق المزيد من الاحتكاك.
كما نبع غياب القدرة على فرض القانون على الأحياء العربية من الخلط الهائل في صلاحيات الجهات التي تعمل على خط الفصل هذا في القدس. فالمسؤولون عن خط الفصل، كل واحد في مقطع، شرطة لواء القدس، شرطة لواء يهودا والسامرة، قيادة الجبهة الوسطى في الجيش ولواء القدس في جهاز الشاباك. وقد جرت عشرات المداولات، كثير منها لدى رئيس الحكومة، بمشاركة رئيس الأركان، رئيس الشاباك والمفتش العام للشرطة، وزير الدفاع ووزير الأمن الداخلي، لكنها لم تفلح في ترتيب الصلاحيات وتحديد جهة واحدة تكون مسؤولة عن الأمن في غلاف القدس.
لا حوار
وفي ظل غياب القانون نشأت في الأحياء العربية شبكات جنائية، وإلى جانبها، كما دائما، نشاطات إرهابية شعبية أو منظمة. فخلايا حماس العسكرية التي انتظمت في المدينة كانت الأشد دموية بين خلايا حماس. وسمحت بطاقة الهوية الزرقاء لهم بالوصول إلى أي مكان في إسرائيل. ولحسن حظنا، لم نصطدم في السنوات الأخيرة بخلايا حماس العسكرية في القدس، ولكن لم ينقصنا المخربون المنفردون والعفويون، مثل الشلودي، ممن حرصوا على تجسيد تواصل في العمليات في المدينة.
ما الذي دفع إلى أجواء العنف في العامين الأخيرين في القدس؟ يصعب وضع الاصبع على عامل واحد. الأمر بدأ بصفقة شاليط، حين تم الإفراج عن 14 من أبناء شرق القدس، بينهم سامر العيساوي، الذي اعتقل بعدها وأفرج عنه، لكن قريته، العيساوية، تضج بالعنف منذ ذلك الحين. والتقط المقدسيون من أخوتهم في الضفة الغربية مشاعر اليأس من احتمالات رؤية نهاية الاحتلال الإسرائيلي.
والإسرائيليون قدموا مساهمتهم أيضا: من الانشغال المتزايد بالحرم القدسي (والفلسطينيون يقرأون بدأب المقالات في “ماكور ريشون” المكرسة أسبوعيا لتعزيز السيطرة اليهودية على الحرم القدسي)، مرورا بالاستيطان اليهودي الذي يتسع في الأحياء العربية – وهنا أيضا لا علم لسلطات فرض القانون وليست لديها قدرة تأثير على ما يجري ــ وصولا لاغتيال الشاب محمد أبو خضير الذي كان الشرارة التي أشعلت نهائيا موقد العنف في المدينة.
مذاك، وكل مساء، يخرج شبان زرافات ووحدانا للبحث عن أهداف يهودية لمهاجمتها، وأهداف كهذه ليست قليلة في القدس. وفي أعقاب عملية الدهس أمس الأول سارع ديوان رئاسة الحكومة للإعلان عن أن الشاباك “سيدخل من الآن إلى شرق القدس”. وبالتأكيد ستسألون: أين كان الشاباك حتى الآن. لقد كان موجودا ولم يخرج، لكن هذا نمط الإعلانات التي تحرص على شعور الأمن وليس على الأمن حقا.
وقد طلب وزير الأمن الداخلي هذا الأسبوع المزيد من الوسائل، الاستخبارية والعملياتية، للشرطة. وربما أن هذا يستدعي المزيد من راشقي الحجارة، وربما سيقود لجعل ركوب القطار الخفيف أكثر أمانا، لكن هذا سيكون مثل معالجة مرض مزمن عن طريق شريط لاصق. ففي ظل غياب زعامة مرجعية في شرق القدس، لا تملك إسرائيل جهة تتحاور معها في الجانب الآخر.
صحيح أن الأوقاف الإسلامية برهنت في الماضي على أنه في كل ما يتعلق بالحرم القدسي، هي الجهة التي يمكن التفاوض معها. ولكن العنف المنفجر لا يخضع لقيادة وهو غير موجه من جهة واحدة. وحماس سوف تكون مسرورة لقيادة هذا العنف، لكنها لا تبدو جهة ذات تأثير جوهري في المدينة. فهذا عنف عفوي، لمجموعات صغيرة ولأفراد، لذلك يصعب منعه أو إحباطه.
وبسبب عدم توفر فرصة لأن تفاجئنا الحكومة الحالية بمبادرة سياسية تخلق أفقا وأجواء أخرى مع الفلسطينيين، يبدو أن القدس ستكرس مكانتها كعاصمة للنزاع. والخطوات المتوقعة من جانب الفلسطينيين لعدم تحييد إسرائيل كهدف دولي للمقاطعة وللاستبعاد سوف تزيد هذا الاغتراب، كما أن التطرف في المجتمع الإسرائيلي سيسهم بدوره في إشعال العنف في المدينة.
في بلفاست، وهي مدينة مختلطة اجتذبت على مدى عقود عدة النزاع العرقي الديني في إيرلندا، جرى وصف العنف الذي ميز المدينة بتعبير بريطاني مخفف هو “المشاكل” (The Troubles). وخلال 32 عاما من النزاع لقي 1600 شخص حتفهم في هذه المشاكل.
ومقارنة مع بلفاست في سنوات السبعينيات، تبدو القدس مدينة شبه هادئة. وبعد سنوات من سفك الدماء، وجد الكاثوليك والبروتستانت في إيرلندا سبيلا لإنهاء النزاع. ومن قادهم إلى ذلك كان السيناتور الأميركي جون كيري. وقد شرح لي ذات مرة أنه عندما وصل إلى إيرلندا وجد شعبين ضجرا من العنف، لذلك كانت مهمته فقط إقناع الزعماء بأن وقت المصالحة قد حان.
وقد حاول ميتشيل أن يطبق علينا نحن والفلسطينيين هنا تجربته الناجحة هناك، ولكن من دون جدوى. فالعداء بين الإسرائيليين والفلسطينيين لا يزال حيا وعامرا ويتطلب قيادة أخرى، قيادة تعرف كيف تقود الشعبين أولا وقبل أي شيء نحو الانفصال، في الطريق لتقليص الكراهية. وحتى اليوم لا تبدو في الأفق قيادة من هذا النوع.

السابق
هل تغيّر زيارة العبادي لإيران شيئاً؟
التالي
طائرتا استطلاع اسرائيليتان خرقتا الاجواء

تابعوا اهم اخبارنا على تطبيق الوتساب

يقدّم موقع جنوبية مواضيع خاصّة وحصرية، تتضمن صوراً ووثائق وأخباراً من مصادر موثوقة ومتنوّعة تتراوح بين السياسة والمجتمع والاقتصاد والأمن والفن والترفيه والثقافة.

مجموعة جنوبية على الوتساب