رواية ناجية من «إيبولا»

وصلت سيدة حامل في شهرها الخامس إلى المستشفى حيث أعمل. كانت تنزف من الفم والأنف والأذنين وحُملت على فراش لنقلها إلى المستشفى. وكان الفراش مبللاً بدمائها. ولم يسعها الكلام. وسألتُ عن تاريخها المرضي، وعلمت أن اقاربها وزوجها وأطفالها فارقوا الحياة. بدأتُ أزيل الدماء عنها، وأمدها بالسوائل والمضادات الحيوية. وإثر إخراجي الجنين الميت، لم يتوقف النزف. واعتنيتُ بها طوال 6 ساعات إلى أن لفظت أنفاسها الأخيرة. وأصبتُ بدوري بمرضها. فلدى وصولها إلى المستشفى، كنت أرتدي قفازات. ولكنني لم اكن أرتدي حذاء ولا مئزراً أو ثوباً طبياً. وكان شاغلي سحب المشيمة منها، فتدفقت دماؤها عليّ، ولطخت ذراعي وجسمي. سارعتُ إلى تنظيف نفسي. وواصلتُ الاعتناء بها.

لم يخف عليّ أنني لم أحمِ نفسي على اكمل وجه لكن السيدة الحامل دخلت المستشفى واضطررت الى المسارعة الى مساعدتها. وهببت لمساندتها حين أوشكت على الوقوع من السرير. ولم تتسنّ لي حماية نفسي للتعامل مع حالتها: أي التزام سبل الوقاية وارتداء ثوب طبي. ويومها، لم أكن أعرف أن فيروس «إيبولا» بدأ يتفشى في أوغندا. وفي المنطقة حيث اعيش لم ترصد حالات اصابة به.

وبعد أسبوع على وفاة مريضتي، بدأت أتقيأ وأتعرق، وأصابني إسهال. دار الكلام في المستشفى حيث أعمل على «إيبولا». وقرأت في الصحيفة أن الشبهات تدور حول بلوغ الفيروس اوغندا. وحين لاحظت ان عوارض «إيبولا» كلها ظهرت عليّ، تذكرت السيدة الحامل وعوارضها المماثلة. فشككتُ في أنني مصابة به.

ونقلتُ الى المستشفى في سيارة اسعاف. وإثر فحص دمي، قيل لي أنني مصابة بـ»إيبولا». ونقلت الى غرفة عزل وبدأوا العناية بي: أعطوني سوائل بواسطة مصل في الشريان ومضادات حيوية. ولم يكن في مقدوري الحركة أو مغادرة السرير أو الكلام. كنت عاجزة عن فعل أي شيء. وخسرت 25 باونداً من وزني. بقيتُ في المستشفى شهراً، ثم سمحوا لي بالمغادرة.

وكنت على يقين من أنني سألفظ انفاسي الأخيرة. ولم تفارق فكرة الموت رأسي. وحاولت شقيقتي طمأنتي قائلة:» لن تموتي». لكنني كنت عاجزة عن الكلام. وشغلني القلق على المقربين مني الذين احتكوا بي قبل معرفتهم انني مصابة بالفيروس. وحين قال زوجي وشقيقتي انهما سيواصلان العناية بي، خشيت ان أفقدهما. واليوم، يعصى علي تصديق انني حية.

لم أصب أحداً بعدوى الفيروس. ولكن كل من اعتنى بتلك السيدة الحامل، فارق الحياة. وبعد شهر من العزلة والعلاج، غادرت المستشفى. ولم اشعر بالتحسن قبل مرور شهرين. ولكن، على رغم التحسن، واجهت مشكلات كثيرة، منها النسيان. وتساقط شعري كله، وملأت القشور والشقوق جلدي، وصار خفقان قلبي سريعاً. ولم ينمُ شعري قبل أشهر طويلة. وتوقفت دورتي الشهرية خمسة أشهر. وطوال عام، كان النسيان ديدن ذاكرتي. وكان الناس يتحاشونني، ويحسبون انني مريضة ولم أتعافَ. فهم لا يعرفون أن النجاة من «إيبولا» ممكنة. وكانوا يختبئون مني، وبعضهم يفر راكضاً حين يشاهدني. لكن المستشفى سمحت لي بالمغادرة لأن شفائي ثبت. وصرتُ أعرض شهادة الخروج من المستشفى على الناس من اجل ان أؤكد لهم شفائي. وشيئاً فشيئاً، عادوا الى الترحيب بي.

ويقتل «إيبولا» 90 في المئة ممن يصابون به. أنا حالفني الحظ إذ ان شقيقتي طبيبة. ووسعها شراء الأدوية والسوائل والمضادات الحيوية وتزويدي بها. وكانت تعرف سبل حماية نفسها من الفيروس. وزوجي ممرض، ساعد شقيقتي على الاعتناء بي. وحين أسمع عن وفاة أشخاص بـ»إيبولا»، أشعر بالسوء. فالفضل في نجاتي يعود الى الله وعناية زوجي الممرض وشقيقتي الطبيبة. وأفكر في ان عدداً كبيراً من المصابين بهذا المرض لم يكن ليفارق الحياة لو تسنى له من يعتني به. والناس لا يدركون ان الوقاية ممكنة من «إيبولا»، ويكفي أن يتحاشوا إفرازات المصاب.

السابق
عشرات العائلات تنزح من طرابلس إلى الضنية بسبب الإشتباكات
التالي
بعد تهديد «النصرة» الارهابية بقتل ولده انهار على الهواء!