كندا البريئة، البسيطة

عيد الشكر الكنَدي يختلف موعداً ومعنى عن العيد نفسه الذي يحتفل به الأميركيون، مواطنو الولايات المتحدة. يجيب الكنديون، عندما تسألهم عن فحوى هذا الاختلاف، بأنهم، في هذا العيد، يشكرون الرب على وفرة المحاصيل الزراعية في نهاية الصيف، فيما الأميركيون يشكرون الرب على السلام الاجتماعي الذي تأمن أخيراً بينهم وبين الهنود، أصحاب الأرض الأصليين، بعد قرن من الحروب المتقطعة. ويختمون بأن عيدهم هذا إنما هو عيد موسمي، “على صلة بالطبيعة”، لا صراع سياسياً فيه؛ فيما عيد الأميركيين هو محصلة صراع عنيف، لم يألفه الكنديون، لأنهم لا يعرفونه، لا يحبونه. وهم بذلك يعرّفون عن أنفسهم مواربة، وأحياناً صراحةً، بأنهم هم الاميركيون المسالمون، الطيبون، الابرياء، فيما أميركيو الولايات المتحدة عدوانيون، أصحاب طموحات خارجية وهيمنة على الآخرين الخ. وفي هذا التعريف الإيجابي عن أنفسهم، يصيب الكنديون شيئاً من الحقيقة، على الأقل في المخيّلة العامة. فكندا لم تخرج من نطاقها المحلي، لم تستعمر يوماً إلا شعوبها المحلية الهندية، وبالكثير من الرفق، النسبي. لم تخض إستعماراً ولا امبريالية؛ لم تنهب قارات ولا استنزفت مواردها طبيعية، ولا نظمت إنقلابات أو حروبا احتلالية، ولا قادت تحالفات زرعت دماراً وخراباً. وهي كانت، منذ قرنين وما بعدهما، الملجأ الآمن والهدف النهائي لجميع العبيد الهاربين من نظام العبودية الاميركي السالف؛ والكثيرون بيننا ممن تجاوزوا الخمسين من العمر، ليس في ذاكرتهم شيء عن كندا إلا إسم ذاك المشروب الغازي “كندا دراي”، الذي كانت له مذاقات متنوعة، والذي تلقى ضربات قوية على يد “بيبسي كولا”، أولا، و من ثم “كوكا كولا”، فاختفى نهائيا من السوق. ليس لكندا ارث استعماري ولا تجاري في مخيلتنا؛ هي فقط بلد يهاجر إليه هاربون من حروب بلدانهم أو مجاعاتها. مع إن كندا دولة متقدمة، حديثة، ديموقراطية، غنية، منظمة. لا ينقصها شيء لتنسب إلى نفسها حق التدخل في شؤون غيرها من البلدان. دول أقل منها قوة وثراء، متخلّفة عنها، تدّعي لنفسها حقوقاً خارج مواطنها، لتضع يدها على مصير أمم مجاورة أو بعيدة. تبدو براءة كندا وكأنها من صفاتها الوطنية التأسيسية، ومن صفات مواطنيها، الذين يتجنّبون الإعتداد بموارد بلدهم وحداثته واتساع مساحاته. وهذا ما يجعل المواطنين الكنديين ينزعجون من مشاركة بلادهم في الحملة العسكرية التي تقودها الولايات المتحدة ضد “داعش”. يفضلون أن لا تسألهم عن هذه المشاركة، يتلعثمون عندما تصرّ، فيجيبون بكلمات مغمْغمة عن تبعية حكومتهم للولايات المتحدة، عن اضطرارهم لمجارتها تجنباً لشرها؛ مثلهم مثل القبائل الهندية المسالمة التي كانت تهرب من اعتداءات القبائل العدوانية بمهادنتها، فتنجو بنفسها… ولكن البراءة ترتدي الأبيض الناصع عندها يناقش صحافيوها موضوع إلتحاق مئة وستين مواطناً كندياً بالجهاد الداعشي؛ وبعضهم أصوله كندية صرفة، أي اوروبية، مسيحية. فيتساءلون عما يكون قد دفعهم نحو الجهادية الإسلامية… وتكون الإجابات في غاية البساطة، لا تعقيد فيها: انهم يشكلون بذلك هويتهم الفردية، انهم يحتجون، يغامرون، مع انهم كلهم شباب متعلم، ومن أصول اجتماعية غير هامشية، منحدر من هجرة قديمة، ينتظره مستقبل واعد… بساطة الكنديين هذه، هي عكس “السنوبيزم” (snobisme). هي ليست بساطة البلاهة، أو الغفلة، إنما بساطة الباحثين عن الكينونة العميقة عن الفعالية، عن السكينة، غير الملتفتين الى المظهر إلا قليلاً. “السنوبيزم”، أو التعالي على الآخرين بمظاهر خارجية، بطريقة في اللباس، أو في الإستهلاك، أو في تبني حيثيات الموضة… كل هذا غير منتشر بين الكنديين. فيما غالبية شعوب الأرض، خصوصا اللبناني منها، يسعون الى الظهور بأبهى حلَلهم، ولو على حساب راحتهم أو جيبهم أو ذوقهم، ينحو الكنديون عموماً نحو المظهر الذي يناسبهم، يريحهم، يتواءم مع ظروف عملهم ورواتبهم، ومناخهم، خصوصاً مناخهم، القاسي. لذلك تجدهم مرتاحين مع أجسادهم، ولا يأبهون بالصورة التي يقدمونها عن أنفسهم. ولعل البدانة واحدة من هذه العلامات. السمنة المنتشرة بينهم ليست عيباً وطنياً، ولا ذريعة للتهميش والتمييز، ولا سبباً للإكتئاب، أو العزلة العاطفية. السمينون والسمينات الكنديون يتعاملون مع وزنهم المفرط على انه من عوامل الراحة مع الجسد، وتعبيراته. تجد على الرصيف عشيقين، أحدهما “عادي” بوزنه، بل “رياضي”، والاخرى يتجاوز وزنها المئة وخمسين كيلو؛ أو شلّة صديقات يتنزهن، اثنتان بينهن سمينتان، والأخريات رشيقات. ترى مديرة أحد المخازن الكبرى، أو مضيفة طيران، أو مغنية في ملهى ليلي، بكامل غوايتها، تبعث كل حركاتها على الإثارة وتلاقي تجاوباً منقطع النظير… كلهن سمينات يقفزهن بأجسادهن وكأنها من ريش، لا فكرة، ولا خاطرة، ولا نظرة انزعاج من عرض كل هذه الحجم. أسأل من حولي، عن مغزى كل ذلك، فتعود الإجابة اياها: “انها البساطة الكندية”. ولكن الافراط في البساطة لا يلغي الفورات الفوضوية، ولا نقيضها، القوانين الدقيقة الصارمة…

السابق
«النصرة قادمة» الى دير انطار السلطانية
التالي
كيف ردّ معارضو الأسد على فيديو «مندسين» لبلادي؟