التباسات الاسلام السياسي

حبيب فياض

ظلت علاقة الإسلام بالسياسة محل تنازع بين مَن تمسّك بها كبديهة لا تحتاج الى استدلال، ومَن اعتبرها إشكالية تنطوي على التباس كبير. فإلى جانب النصوص القرآنية القابلة للتأويل والتوظيف في أكثر من اتجاه، ظلت تجربة الدولة النبوية في المدينة المنورة (بوصفها الملهم الأول لتجارب الإسلام السياسي) موضع اختلاف بين فريق ذهب الى اعتبارها شأناً دينياً ـ تشريعياً موحى به من السماء، وآخرَ رأى فيها شأناً دنيوياً – تدبيرياً تمليه سيرة العقلاء وضرورات الاجتماع.

غير أن تأمل التجربة السياسية في دولة النبي المدينية يفضي إلى القول إن هذه الدولة عابرة للأزمان في غاياتها (العدالة الاجتماعية وحسن الجوار و…)، ولكنها تاريخية – ظرفية في آلياتها (السلطة والإدارة وإقامة الحدود و…). ذلك أن عدم التمييز بين هاتين الحيثيتين ينتج النزعات السلفية ومشتقاتها التكفيرية، ويدفع بهؤلاء الى اتباع التجربة النبوية من خلال العودة الى عصر النبي وزمانه، بدلاً من استحضار النبي الى عصرنا وزماننا، كما يدفع بهم الى تقليد السيرة النبوية، شكلاً ومضموناً، بطريقة حروفية وآلية على حساب الاقتداء بروح النبوة والتأسي بمقصديتها.
مشكلة الكثير من الاسلاميين، في تجاربهم السياسية، أنهم اتخذوا على الدوام قوالب النص الديني معياراً لتقويم الواقع ومحاكمته، فيما لم يبادروا يوماً الى اتخاذ تجاربهم الواقعية دافعاً الى اعادة قراءة النص وفهمه على اسس مختلفة وجديدة، إذ انهم اعتبروا أي محاولة من هذا القبيل بمثابة تمرّد على التعاليم المقدسة ومحدداتها، فيما غاب عنهم أن النص المقدس يحمل من المرونة ما يتيح الخوض معه في حوار على أسس اجتهادية، وصولاً الى تشكيل الرؤية الأكمل والأصلح.
لقد وضعت الظاهرة الداعشية الاسلام السياسي بين حالتي التشوّه والتهميش، حيث استطاعت «داعش» ونظيراتها تقديم نموذج ديني مشوه قابل للتعميم، فيما بقي معظم الاسلام الوسطي مجرد آراء ونظريات عارية عن التجسد في أي نموذج. الفرق بين التكفيريين وغيرهم من غالبية الاسلاميين هو ان أتباع النزعة التكفيرية يحملون فكراً دينياً مشوّهاً، لكنهم يطبقون فكرهم هذا بشكل صحيح. فيما هؤلاء الأخيرون يحملون فكراً دينياً قد يكون سليماً، لكنهم لا يطبقونه أصلاً، او أنهم يطبقونه بشكل خاطئ.
قيل في أسباب نشأة علم الكلام (العقائد) أن كلاماً كثيراً طُرح، بعيد صدر الإسلام، على شكل سجال وجدال بين المفكرين المسلمين حول اذا ما كان مرتكب الكبائر من الذنوب كافراً. مذ ذاك وَجد القول بتكفير مرتكب الكبيرة طريقه الى الفعل من خلال النزعات التكفيرية وإقامة الحدود على من اتهم بالكفر والردة. بالمقابل، بقي القول بعدم كفر الآثم بالكبائر مجرد نظرية لم تنبثق عنها جماعة تمنع الأذى والقصاص والحدود عمن لحقهم الحكم بالتكفير. اليوم ايضا، يكفّر «الاسلام الداعشي» ويقتل، فيما «الإسلامات» الاخرى بعضها متواطئ معه وبعضها يقف متفرجاً على التل. وفي حال أراد إسلام ما التصدي له والوقوف في وجهه، أسقطت عليه التهم المذهبية والرافضية وصار من المضطهدين لجمهور المسلمين!
التدين في حالاته السليمة عبارة عن قيم تتحول الى ممارسة. وهو في حالاته الانحرافية حشو بالمعتقدات وانحرافات نفسية وحضّ على الكراهية والتحجر والقتل. الحالة الاولى، غالبا ما تبقى تمظهراتها في اطار التجربة الفردية، فيما الحالة الثانية سرعان ما تتمظهر على شكل ظواهر جماعية. الامر لا يعني أن كل تجربة دينية جماعية هي حالة انحرافية، بل يعني ان كل حالة انحرافية لا بد ان تتحول الى ظاهرة على شكل جماعة.. جماعة «داعش» وشبيهاتها.

http://assafir.com/Article/18/376228

السابق
المرجع حسين الصدر: الاسلام السياسي أساء للدين وشوّه مفاهيمه
التالي
زوجة الوسوف الثانية: زواجنا تم على يد مفتي سوريا