إعلام لبنان بين انحطاطين… أو ثلاثة

ما من موقف واحد بقادر على اختصار ما يشعر به المرء عند مشاهدته وقراءته ما يصدر ويبث وينشر في وسائل الإعلام اللبنانية، الكبيرة والرئيسة منها قبل الهامشية. لم تعد مشاعر مثل الازدراء أو الغضب أو الذهول والسخرية تعبّر عما يعتمل في قلب وعقل من يجد نفسه أمام شاشة أو صحيفة لبنانية.

كمية لا يحيطها عقل من الاسفاف مغلفة بالتحريض الطائفي والدعوات العدمية الى القتل والموت. صحف عريقة لا تكلف نفسها عناء التحقق من صحة خبر ورد على «الفايسبوك» وشقيقتها تفتح صفحاتها للتحريض العلني الموصوف على أهالي بلدة لبنانية داعية الى ذبحهم. أما محطات التلفزة، فانتقلت من فلسفة «بيع المشاهد الى المعلن» الى بيع المشاهد الى القوى والاحزاب السياسية – الطائفية. برامج «التوك شو» باتت مخصصة لفتية آمنوا بمن يمول «مراكز ابحاثهم» الوهمية، لا معرفة لهم ولا دراية بشيء. يهرفون بما لا يعرفون، ويردد الجمهور الكريم في اليوم التالي ما قال لهم ضابط ارتباطهم المخابراتي ان يقولوا.

بيد أن هذا، على فداحته، يبقى الظاهر والواضح من جبل الاعلام والسياسة في لبنان. فما كان من المتخيل بحال أن يصل وضع الاعلام اللبناني الى هذا الدرك لولا اصناف من قوى الانحطاط موّلت هذه المسيرة المشؤومة وشجعت عليها وحمتها في السياسة والأمن.

تعريف الانحطاط ليس صعباً في الحالة اللبنانية. انه انهيار الأساطير المؤسسة التي قام عليها الكيان اللبناني منذ الانتداب الفرنسي وانعدام القدرة على انشاء رواية تأسيسية بديلة وجديدة.

انتهت الهيمنة البرجوازية المسيحية التي عُرفت بـ «المارونية السياسية» وأساطير التعايش الحضاري المتعدد و«لبنان الاخضر» و«قطعة السما» مع اندلاع الحرب الاهلية في 1975. واكتشف اللبنانيون انهم طوائف وجماعات قادرة على نبش ذاكرة الكراهية والتنابذ والتذابح القديمة. اتفاق الطائف كرس هزيمة اسطورة لبنان «سويسرا الشرق» وأدخله في حقبة الوصاية السورية الكاملة التي عمل حافظ الاسد وجلاوزته على حياكتها من حاصل جمع هزائم الاطراف اللبنانية كلها. بيد ان اسطورة «المصير الواحد» واتحاد اللبنانيين حول مقاومة اسرائيل وتأليه «القيادة الحكيمة» في دمشق، تعرضت الى امتحان قاس مع الانسحاب الاسرائيلي في 2000 (وهو الانسحاب الذي رفضته الممانعة يومها ووصفته «بالمؤامرة»).

لم يكن من بد، والحال على ما تقدم، من خلع القفاز وإعلان التمسك بإبقاء القبضة السورية (واستطراداً الايرانية) على لبنان مهما كان الثمن، فجرى اغتيال رفيق الحريري وسط هذا المناخ. ودخلنا هنا في الانحطاط الثاني. الأثر الذي تتركه الاكاذيب والمراوغات التي سطّرها حلفاء نظام بشار الاسد في لبنان، يضاهي أثر الاغتيالات والتفجيرات. فهم، من جهة يدركون ضحالة المشروع الذي يدعون اليه وعجزه عن تقديم حل لأي من مشكلات لبنان البنيوية، لكنهم لا يستطعيون الانخراط في تسوية تعيد صوغ النظام السياسي اللبناني خارج موازين القوى (خصوصاً العسكرية منها) التي يرون انها تكفل لهم تفوقاً وقبضاً تاماً ونهائياً على مفاصل المجتمع والدولة، من جهة ثانية.

تبرع المقيمون بين أنقاض الأسطورة المؤسسة الأولى ومدوا يدهم للتفاهم مع دعاة الاسطورة الثانية، فكانت النتيجة هذا الخراب العميم في الدولة ومؤسساتها ومستقبلها. ولاقى هؤلاء في منتصف الطريق فريق لا يقل انتهازية وشحّاً في الخيال والادراك. الفريق هذا يمثل الوجه الثالث للانحطاط.

ولم يبق من الاعلام اللبناني غير نعيق بوم ينبّه من لم ينتبه بعد الى دمار لبنان، مجتمعاً وسياسة واقتصاداً.

http://www.alhayat.com/Opinion/Houssam-Itani

السابق
لماذا زار الأحدب المطلوبين للعدالة في التبانة؟
التالي
كيف تؤثّر الألوان على حالتك النفسيّة؟