أزمة المساواة الاجتماعية في المجتمعات الغربية

كان مدّ الجسور بين الحرية والمساواة – والمبدآن هذان هما نواة النموذج الديموقراطي – طموح الفيلسوف الأميركي جون راولز في «نظرية العدالة». واليوم، يبدو أن كفّة الحرية رجحت على كفّة المساواة، على وقع تنامي الفردية. ولم تعد العدالة الاجتماعية شاغل المجتمعات الديموقراطية، وفي كتابي «استساغة اللامساواة»، لاحظت انفراط لحمة التضامن الاجتماعي، وأشعر بأن الغرب لفظ إرساء المساواة، على رغم أنه يقرّ بأن البشر سواسية عند الولادة. وهو لا يسعى إلى تحويل المساواة بالفطرة إلى مساواة اجتماعية. وإثر ثلاثين سنة من النمو اللافت في أوروبا بعد الحرب الثانية، وانتقال الثروات من شرائح اجتماعية إلى أخرى، انقلبت الآية منذ الثمانينات. ومن ليسوا من الـ 10 في المئة من الأثرياء ولا من الـ 10 في المئة من الأدقع فقراً، يواجهون تعاظم اللامساواة وتعدد أشكالها: في الدخل وفي الإرث واللامساواة المدرسيّة والصحيّة واللامساواة في البطالة والهشاشة الاجتماعية والتفاوت في أحوال الأمكنة في البلد الواحد.

لكن اللامساواة على أنواعها لا تنجم عن أسباب اقتصادية فحسب، فالكلام غالباً ما يدور على الـ 1 في المئة من الأكثر ثراء وطبقات المجتمع الأخرى. وأشكال اللامساواة التي تقلقني هي تلك الماثلة في مدارس أطفالنا والشركات والأحياء… والوعي باللامساواة وأشكالها صار فردياً. فالطبقات الاجتماعية تتذرّر، وليست استساغة اللامساواة خياراً عقائدياً إيديولوجياً بل مشاركة في مجموعة من أشكال اللامساواة. فالناس يستسيغون السكن في أحياء هادئة وآمنة أكثر مما يميلون إلى السكن في الأحياء البعيدة و»الخطرة». والميل أو التفضيل هنا يساهم في نشوء الحارات (الغيتو) والفصل السكاني. وفي حلقات الأصدقاء، يُندَّد، من جهة، باللامساواة المدرسية، ومن جهة أخرى، تُتناول سبل التحايل على التقسيم المدرسي المناطقي (مقسّم إلى دوائر أولويّة تكيّف التعليم مع مستويات الطلاب ومنابتهم الاجتماعية). ويبرز في كل دوائر المجتمع ميلٌ إلى التقوقع في دائرة اجتماعية واحدة، والرغبة في مراكمة رأسمال اجتماعي متجانس تساهم في ترسيخ اللامساواة. والخوف من الهبوط في السلم الاجتماعي وراء السعي في النفخ في اللامساواة واستبعاد الأدقع فقراً. والخوف هذا، أو الشعور بالخطر من احتمال تدني المكانة الاجتماعة، هو خطر متخيّل أكثر مما هو وثيق الصلة بواقع في الطبقات الوسطى. ولكن لا يستخفّ ببنات الخيال في الحياة الاجتماعية وتوجّهاتها. لذا، تترتب على الشعور المتخيل نتائج تقوّض اللحمة الاجتماعية. وفي المجتمع الصناعي كانت الطبقات تنتظم في عالم مستقر، على رغم غياب المساواة. ولكن في العالم هذا كان الناس يشعرون بأن مكانتهم «مضمونة». واليوم، يضطر كل فرد في نظام اللامساواة المتذرّر إلى الدفاع عن مكانته ويبحث عن التمايز وإشهار مرتبته أو إبراز شاراتها.

لا أدعو إلى إرساء المساواة «المطلقة» بل إلى مكافحة الخطوات والإجراءات اليومية التي تراكم اللامساواة. وهذا يقتضي أن يشعر المرء بأنه على قدر المساواة مع غيره وأن ثمة لحمة تربطه بهم وأنهم ينتمون إلى عالم اجتماعي واحد. ولم يقيّض للتقدم والتطور أن يبصرا النور من غير شعور الناس بأن مصيرهم لا ينفكّ من مصير غيرهم. وكانوا يسدّدون الضرائب، لأنهم يعتبرون أنهم مدينون لغيرهم الذين يدينون لهم بدورهم بشيء ما. ولكن، اليوم يلاحظ أن الشعور هذا خبا وأصابه الوهن. وحين يلقي المرء نظرة إلى سياسات رئيسة وزراء بريطانيا السابقة مارغريت ثاتشر والرئيس الأميركي السابق رونالد ريغان، وشطر من المجتمع الفرنسي المحافظ، والتي لا تعلي شأن المساواة، يلاحظ أن عدداً كبيراً من الناس يرون أن ضحايا غياب المساواة يستحقّون مصيرهم وما لحق بهم. وهم ليسوا ضحايا في نظر هؤلاء، بل كبش محرقة: فحين يندّد بارتفاع معدلات البطالة يرتاب الناس في دور العاطلين من العمل في خسارتهم الوظيفة أو مورد رزقهم؛ فحين يندّد بالرسوب المدرسي والإخفاق المدرسي، يُتهم الأهل بالمسؤولية عن «مستوى» الأولاد التعليمي. ولا شك في أن إحياء لحمة التضامن التي تنفخ في الرغبة في المساواة، يفترض بروز إطار رمزي ومتخيّل أو سرديّة جماعيّة أو أسطورة. وكانت الأساطير الدينيّة تشدّ أواصر اللحمة بين الناس. لكن آصرة الصلة بالآخر انحلت، لذا، تبرز دعاوى إنشاء جماعات مغلقة. وكانت الأمة الفرنسيّة ركن المشترك في المجتمع: ثقافة ولغة جامعتان تحت لواء الدولة، وعقيدة علمانية تميّز بين المتشابِه والفريد. لكن الأمة المتجانسة المزعومة هذه، انفضّت على التجانس المتخيّل، وصارت لها أوجه مختلفة، ولم تعدْ سيّدة سيادة مطلقة على ما حسِبت.

خطاب «الجبهة الوطنية» (اليمين المتطرف) يستند إلى الإقصاء. ورمى الرئيس السابق للجمهورية الفرنسية نيكولا ساركوزي، من النقاش حول الهويّة الفرنسية، إلى تحديد ما ليس بفرنسي. فالفرنسي هو مواطن يتحدّر من إرث كاثوليكيّ ثم علمانيّ. وبعضهم يرى أنه رجل جمهوري أبيض وغير مثلي. لكن الخطاب هذا يقصي شطراً راجحاً من الناس، ولا سندَ له في الواقع. فهو يدعو إلى العودة إلى مجتمع أفل. وهذه العودة مستحيلة ما لم تنتهج فرنسا نظام كوريا الشمالية الاستبدادي. والحق في الاختلاف، مسألة بارزة اليوم. وثمة إقرار بأن الجنسانية متعددة الشكل وبأن الأديان متابينة ومختلفة، وثمة مروحة لا تحصى من أشكال التمايز الفردي. لكن بعض المحافظين يرى أن تعريفَي العائلة وفرنسا لا يتغيّران، لذلك يعارض حق الأفراد في الاختلاف، وفي أن يكونوا من هم عليه، ويعارضون الحق في أشكال مختلفة من التعليم والعائلات والأواصر الاجتماعية. والإقرار بالاختلاف يفترض الإقرار بشعور الأخوية الضاوية والمشتركة والمشتملة على كل الاختلافات.

اليوم، يقتضي نسج المشترك بين الناس، والتضامن الجامع، نسجاً عمودياً غير تجاوزي من أسفل الهرم إلى أعلاه: المشاركة في تحسين تعليم أطفالنا والاشتراك في حيّز المدينة والصداقة والعمل، بدل تنافس الأفراد… ومن يعارض المساواة، لا يعارضها بالضرورة بين الإناث والذكور، لكنه يؤيّد أشكال اجتماع تقليدي، يكرّس اللامساواة بين الجنسين. وتبرزُ الحاجةُ إلى إقناع أمثاله بأن حماية هويّتهم، لا تنفي المشترَك مع الآخرين، ومبدأ المساواة.

السابق
كيف تؤثّر الألوان على حالتك النفسيّة؟
التالي
بين استراتيجية إسرائيل… وأجندة أوباما