بالكاد يعيش الواحد منا في سيرة واحدة مكتملة، أي أن يرسم لنفسه وجهة وصفة، ويكرس وقته وجهده كي يحقق ما خطّه مهنة أو مهارة. بالكاد للصحافي منا مثلاً تكفيه حياة واحدة كي يصير صحافياً حقاً، إذ غالباً ما ينقضي العمر من غير تحصيل الرضى أو الشعور بالاكتفاء مما نحن نذرنا أنفسنا لتحقيقه.
نقول هذا ونحن نتذكر السيد هاني فحص بسيره الكثيرة، كحيوات عدة متجاورة، وكانتقالات من حقبة إلى أخرى، ومن تاريخ إلى آخر، بل ومن بلد إلى آخر، ومن حمل قضية إلى اعتناق قضايا، يجمعها لتصير فيه همّاً واحداً وشخصياً.
كان وحده، في كل الأحزاب والحركات والمؤسسات التي ناصرها وعمل فيها، وكان خارجها أيضاً، حريصاً أن يبقى منفرداً، لا يأسره دور أو انتماء أحادي. كأنه بنّاء جسور لا جدران ولا غرف، ينتقل من ضفة إلى أخرى، كما يتوجب على المستكشف الجوال إذ يسافر فهو يكتنز ما يرى، ويوسع عالمه وبصره.
أخذ هاني فحص حياته كلها كأنه يؤلف رواية من شخصيات كثيرة، لا حكاية من دون كثرتها. شخصيات هي تعدد الأنا، وتراكب الهويات والأهواء في النفس الواحدة. فكان مزيجاً من صفات وأدوار تليق بمن يسعى أن يكون «إنساناً» وحسب، وتليق بمن يوقر الحياة نفسها.
أن يكون هاني فحص شيخاً وفقيهاً، أن يكون أيضاً «نقابياً» ينظم تظاهرات الفلاحين ويعارك رجال الشرطة، أن يكون رجل دين ويسارياً أحمر، أن يظل «سيداً» ويكون فدائياً فلسطينياً يحمل السلاح فعلاً وينطلق إلى الجبهة، وأن يكون أيضاً قارظاً للشعر، وناقداً للأدب، وسيالاً في تدبيج النثر، وكاتباً للمقالة الصحافية، أن يعمل في السياسة طامحاً للنيابة في البرلمان، ويظل أيضاً شيخاً يمارس عمله، فتوى ومشورة وإبرام عقود وإجراء مصالحات، وإلقاء خطب في حسينية، وأن ينشط أكثر بين ثورات ودول وحكومات ومؤسسات مدنية، وينذر نفسه لـ»حوارات» بين جماعات وأديان وطوائف، ويؤلف الكتب. كل هذا كان يبدو في عينه قليلاً، أو أقل مما قد يمنحه الرضى.
وإذا كان بديهياً إلمامه بعلوم الفقه واهتمامه بالتراث الإسلامي، ولصيقاً بلغة الأئمة وموضوعاتهم، وهذا ما يجعل أي شيخ يمضي حياته مكتفياً بهذا، شبعاً بالنهل منه، إلا أن هاني فحص كان من الشيوخ النادرين الذين إذ يقرأون ما خطه الإمام علي بن أبي طالب، يقرأون أيضاً أنطونيو غرامشي أو جان بول سارتر. هو نفسه الشيخ الملم بقصائد المتنبي الذي باستطاعته تذوق الشعر الفرنسي، هو أيضاً تلميذ الدين النجفي الذي سيعمل على نشر نتاج حركة الحداثة الشعرية في أشد البيئات تحفظاً وتقليدية.
أذكر في رحلتنا معاً إلى القاهرة لحضور مؤتمر للمعارضة الثورية السورية، أننا علقنا في زحمة السير الرهيبة، وأصاب الذهول سائق التاكسي وهو ينظر إلى زيه الشيعي بالعباءة البنية والعمامة السوداء، فيما كان «السيد» يروي ذكرياته الحميمة عن مصر، مدندناً أغاني نجاة الصغيرة وعبد الحليم حافظ وأم كلثوم، ثم متذكراً لقاءاته بشيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي، والبابا شنودة، إلى أن عاد وبدأ يشرح لي عما يحبه في روايات نجيب محفوظ وتحسره على الشاعر الصعلوك نجيب سرور وشغفه بمشاكساته. شاعر مارق ومتمرد لكنه صاحب عنفوان وكبرياء. راح السائق يهمس لي: «هو بجد شيخ ولاّ ممثل لبناني؟». وإذ أقنعته أنه فعلاً شيخ و»مثقف مثل طه حسين»، قال للسيد: يا مولانا، ما تعلّم في الأزهر.. يمكن بقى يكون عندنا مشايخ زيك بتفهم وبتخاف ربنا وترحمنا«.
أذكر في ذاك المؤتمر، ليس الترحاب الهائل الذي لقيه من جمع أحرار سوريا وحسب، لكن مشهد عناقه باولو دالوليو، المختطف والمجهول المصير. كنت في تلك اللحظة أرى الكاثوليكي سليل «لاهوت التحرير» والشيعي سليل «فقه الحرية»، معاً على أرض مصر ثورة يناير، في لقاء من أجل أنبل الثورات العربية وأكثرها مظلومية.
هاني فحص، كان يمكنه كما أبناء جيله، أن يكتفي بنضال واحد، بثورة واحدة أو ثورتين على الأكثر، وربما كانت هزيمة واحدة تكفيه شر القتال، أن يقول «عملنا ما علينا في زمننا وحان وقت الاستقالة». لكن وحتى آخر زفير وشهيق، كنا نراه في ساحة الشهداء وقد سبقنا موقداً شمعة تضامن مع ضحايا شهداء ساحة الساعة في حمص، في ساحة سمير قصير تضامناً مع درعا وحماة وحلب. وهو أصلاً سبقنا عمراً فكان له حظ (ومصائب) الستينات والسبعينات بثوراتها وقضاياها وحروبها وتظاهراتها وأوهامها وانتصاراتها وهزائمها.. ولم يتقاعد.
في أواخر التسعينات، حين بدأت معرفتي به، كان يكرر على مسامعي: «القضية الصعبة هي أن تعمل يومياً لتكون مواطناً لبنانياً، والمهمة الأصعب أن تعمل يومياً على بقاء دولة لبنان«.
ربما لهذا السبب، عندما شعر في أيامه الأخيرة أن الكارثة في الأفق، كتب رسالة من 5200 كلمة موجهة إلى «حزب الله»، هي الوصية الأخيرة، الدفاع الأخير بوجه اليأس. رسالة مفعمة بالنبل ضد الاستقواء. رسالة لنا بالأحرى، أن نكون شجعاناً، أن نحفظ مواطنيتنا، ونصون دولتنا. هي وصية ثقيلة أشبه بدَين، يتطلب أكثر من حياة واحدة لإيفائه.