رجل الاعتدال والحوار

هاني فحص

ليست هذه الأسطر رثاء للسيد هاني فحص، بل هي في واقع الأمر مقالة طلبها مني الراحل الكبير قبل نحو شهر ونصف شهر عندما كشف لي أن «أصدقاء» له يعدون عنه كتاباً. لم أسأله من هم هؤلاء «الأصدقاء» وهو لم يذكر لي أسماءهم. كل ما في الأمر أنني قبلت طلبه خجلاً لا سيّما أنه قلما رد طلباً لي للكتابة في «الأنباء» أو في مجلة «الفكر التقدمي» التي نشرنا في عددها الأخير مقالة له وقد صدرت أثناء وجوده في المستشفى ولم يتسن له أن يطلع عليها.

ربطتني بالسيّد هاني علاقة قديمة تعود إلى منتصف التسعينيات، وحدث أن اختلفنا مراراً في الرأي حول قضايا راهنة، لكنه كان دائماً يتمسّك بالحوار، ولم يتوقف مرة عن التواصل سواء أكانت الآراء متفقة أم مختلفة. وهي واحدة من ميزاته العديدة والمتنوعة. لقد فقد لبنان برحيله علماً من أعلام الحداثة والتنوير في زمن الظلمات والعتمة الفكريّة.
وسأكتفي بنشر نص لا أدري أين كان سيُنشر ولكنه شهادتي بالعلامة الكبير السيّد هاني فحص:
صعبة هي الكتابة عن السيد هاني فحص وأسباب ذلك كثيرة ومتنوعة. هو قامة وطنية كبيرة ترجح بين الإنسانية والقومية والعروبة والإسلام، تفتح منافذ الحداثة من دون أن تقفل أبواب التراث، تنادي بالتجديد وتحافظ على التقليد.
غزير الانتاج والكتابة هو السيد هاني فحص، يتنقل بالقارئ بين الأسطر من فكرة الى فكرة بسلاسة وهدوء من دون أن يغفل إمكان استفزازه بمواقف جريئة ندر أن صدرت عن رجل دين في عصرٍ تشوهت فيه المعالم الدينية، وارتدى التطرف لباس الدين مفككاً معانيه الأساسية في التسامح والمحبة والتعايش.
متقدم هو في نظرته للدين والدنيا. كلماته الرشيقة تفتح أبواب العقل وكأنه مسكون بابن رشد الذي ألفّ مرجعاً هاما بعنوان: «فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من اتصال» في مسعى عقلي، مبني على الوعي والإدراك، للجمع بين العقل والدين والقول انهما لا يتناقضان بل يتكاملان.
فالإيمان العقلاني قد يكون أحد مرتكزات تفكير السيد هاني فحص الذي يرغب دائماً في إعلاء شأن العقل، رافضاً الفهم الضرير لمكونات الفقه الديني من دون العمل البحثي والعقلي الجدي على مختلف المستويات.
يبحث دائماً عن المشتركات والمساحات التي تجمع بين الثنائيات، يأسف لأن يكون المتداول من الأديان والمذاهب هو المستوى التكفيري فيها، ولو أنه يملك مفهوماً قاموسياً وفقهياً لمسألة التكفير.
يرى أن كل جماعة فيها من فئة التكفيريين ومن فئة الحواريين طارحاً السؤال الأهم: كيف نُغلب أهل الحوار على التكفيريين؟ هو الذي قال يوماً: «الطائفة اختيار ثقافي».
لطالما التزم السيد هاني فحص بنهج الاعتدال رغم إدراكه أن «الاعتدال صعب ومكلف، وكلما دفعت الثمن، أحسست بنور الاعتدال وجماله»، على حد وصفه. ومع أهمية هذا الاعتدال، فإنه يمتلك الوضوح في الرؤية تجاه قضايا في غاية الحساسية والتعقيد، فيقول مثلاً: «ليس لدي إيمان بالعصمة أمام المقامات»، وهذا القول ينطوي على الكثير من الجرأة والشجاعة في الزمن الذي تحول فيه الكثير من «القيمين» على الدين (أو الذين يدعون هذا الدور على الأقل) لا يقبلون نقاشاً أو رأياً مغايراً. فأن يصدر هذا الموقف عن رجل دين معمم، فهذه مسألة مهمة للغاية يجدر التوقف عندها.
حذر ويحذر من ضرورة الابتعاد عن الإقصاء لقوى سياسية تحمل مشروع الإسلام السياسي، لكنه دعاها في الوقت ذاته كي لا تعيد إنتاج أخطائها مراراً وتكراراً مثلما حدث في مصر. وقال في هذا الأمر: «الشمولية مهلكة، والإسلام السياسي إذا ما انتبه الى نفسه، سوف يلحق بالشيوعيين».
رحمه الله.

السابق
حالم دائم يبحث عن وطن
التالي
العلاّمة القدوة