في العام 1976 ـ وكان قد مضى حوالي السنتين على عودتي من رحلة الدراسة التي توزّعت بين بروكسل وباريس ـ صدر كتابي/الأطروحة بعنوان «الاتجاهات الاجتماعية ـ السياسية في جبل لبنان والمشرق العربي» كما كان قد مضى حوالي السنتين أيضاً على اندلاع الحرب الأهلية في لبنان، فبدا ـ في سياق انقطاع حصل ـ وكأنها حرب السنتين، فسُميت كذلك. على أن همَّين كانا لا يزالان يشغلان حيزاً من اهتمامي ومشاغلي: همّ القضية الفلسطينية وهمّ المسألة الاجتماعية في لبنان، ذلك أن بقايا من ذكريات النضال في حلقة لبنان الاشتراكي، كانت لا تزال تفعل فعلها في النفس، من دون الرغبة في الانخراط في صفوف العمل الحزبي، بعد أن عارضتُ مع رفاق قدامى الانخراط في المشروع التأسيسي لمنظمة العمل الشيوعي (1970).
في هذه الأجواء تعرّفت إلى السيد هاني فحص. قصدته، مع أصدقاء مشتركين، إلى قريته جبشيت، لأهديه كتابي الذي أثار آنذاك بعض الشجار الفكري بين مادح وناقدٍ وتحت ضغوط الحرب الأهلية وأهوائها. والحقيقة أن الكتاب كان ذريعة تعارف. فمقصد التعارف الكامن، كان مشدوداً إلى الهمَّين المذكوريْن: سيّدٌ عاملي ونجفي معمم، يحمل بشغفٍ وحماس هذيْن الهمّيْن المشتركيْن: «دعم المقاومة الفلسطينية باعتبارها شرارة ثورة عربية»، ودعم الحركات المطلبية الاجتماعية، بل قيادتها، وكان في طليعتها آنذاك، حركة مزارعي التبغ في جنوب لبنان. فكانت الزيارة بدايةً لصداقة طويلة، صداقة عمر، وإن تقطع زمن هذا العمر وتجاذب بين ابتعاد وتلاقٍ.
على أن الذريعة الفكرية (هدية الكتاب) لم تكن خالية الدلالة لمعانٍ أخرى. فمتن الكتاب كان يحمل إعادة نظر بالتأريخ لإسلاميي النهضة الأوائل من الإصلاحيين (جمال الدين ومحمد عبده وآخرين..)، كما كان يحمل دعوة لمراجعةٍ جذريّة للتأريخ للدولة العثمانية ومجتمعاتها. وكل هذا كان يختلط بذاكرة وجدانية تعيدني إلى ذكرى سيد آخر أقدم، كان صديقاً وجاراً لوالدي في أنصار، هو السيد علي مهدي إبراهيم، وكانت الذاكرة تستدعي معها صوراً من ذكريات الطفولة والصبا مع ابنه كاظم في حي جامع أنصار «وكروستها»، وصوراً لاحقة أنضج لخطابات السيد علي ومواقفه الإصلاحية والوطنية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي.
كان السيد هاني في صورة وعيي الجديد للذاكرة القديمة وهي قيد التفكيك لعناصرها اليوم، مشروع جواب عن سؤال دائم وقائم، البحث عن مصلح ديني يكون تعبيراً عن ذاك الثابت الانثروبولوجي الذي اختزنته الذاكرة، وبتعبير تاريخي، امتداداً لذاك الخط الإصلاحي المتواصل في التاريخ الشيعي العاملي.
هذا ما كنتُ أراه في صورة هذا الرجل؛ صورة متوافقة مع صور الذاكرة، ولكن أيضاً صورة تلبي ما توصلت إليه من قناعات من أن مشاريع النهوض في العالم تبدأ بإصلاح ديني، ولكن أيضاً بتواصل المصلح مع آخرين وبوصلٍ مع أفكارهم. وفي حالة السيد بوصلٍ بليبرالية قوامها لا الاعتراف بالآخر فحسب، بل الاستفادة منه أيضاً، وبيسارية قوامها لا الاعتراض فقط على الوضع القائم، بل بالعمل أيضاً على تغييره بصدق وإن اختلفت الوسائل والطرق.
توطّدت العلاقة مع السيد هاني، فأصبحت بسرعة، صداقة عائلية جامعة بين «بيتين» حميمين؟ ولا همّ إن كانت هذه الحميمية تعاش عن بعدٍ أو عن قرب، أي وفقاً لتبدل الظروف أو الأحوال، فالأساس فيها المحبة، وليس صحيحاً أن البعد يخلق الجفاء، فقد يؤدي إلى عكسه، أي إلى الشوق. وكان هذا هو حالنا حتى اليوم، والشاهد ابنتي فرح، حيث كان السيد هاني شاهداً على طفولتها وهي في المهد، وشاهداً أيضاً على سعيها وهي يافعة «تستزيد علماً» من لقاءاتها معه. فرح «المهاجرة» و«المقيمة» في الوقت نفسه، البعيدة والقريبة، هي الآن المؤتمنة على هذه الصداقة الطويلة، تسأل عن السيد كلما زارت لبنان، ويسأل عنها كلما سنحت فرصة السؤال.
الجسر
بعدٌ آخر لصورة السيد هاني، بالمقارنة مع ما آلت إليه صورة جبشيت، وما آلت إليه صورة رجل الدين الشيعي العاملي.
في العام 1984، أهديت كتابي «المسألة الثقافية في لبنان: الخطاب السياسي والتاريخ» إلى جبشيت، وبمناسبة رحيل اثنيْن من رجالاتها، في الأسبوع نفسه من شهر شباط 1984. الراحل الأول كان الشيخ الشهيد راغب حرب، والراحل الثاني الشيخ الشاهد علي الزين. الأول كتب التاريخ بدمه وفي مطلع شبابه واصلاً ومكرّساً زمن مقاومة بدأت قبل حزب الله، والثاني كتب التاريخ بقلمه مدشناً زمن البحث عن «التاريخ الضائع» في لبنان. هاني فحص كان الحلقة الوسطى والجسر الرابط بين سلاسل هذا الزمن، زمن جبشيت الجميلة التي كنت أحب زيارتها وأحب شبابها المنفتح والمتنوّع والمتعدّد، تنوع وتعدد مشاتلها الغناء.
وأعني بالجسر الرابط ما بين الأزمنة، ما تقدّمه أفكار هاني فحص ومواقفه من وصلات موصلة عندما تحاول أن تقرأ التاريخ بمداه الطويل أي بآماله وأحلامه وإحباطاته وانتظاراته.
تقرأ للسيد هاني «وكان الشيخ علي الزين ومنذ أن سمع من معلمي أني أراهق الكتابة، قد أخذ باستدراجي إلى حضنه، وعلى هزال بدنه والسل الذي تغلغل فيه عمراً، كان يتعافى بنا ويعافينا فلا نعافه ولا يعافنا».
وتقرأ له أيضاً: «وبقيت موغلاً في أحلامي، وغير مواضب، أو قليل الاكتراث بشؤوني الخاصة، وبحاجات الأهل والجسد. أريد فلسطين وأنتظرها، وأضرب لها المواعيد، ولا تصل ولا أصل (…) «أنا مدمن أحلام».
أما عن تديّنه فتقرأ: «كنا نمارس إيماننا وتديّننا من دون أي رغبة في أي مظهر اختلاف أو خلاف مع الآخرين…». هكذا كان عندما كان طالب علوم دين في النجف، وهكذا عهدته دائماً في لبنان وخارج لبنان، وفي بيتي وبين أهلي.
خلاصة القول أني كنت مشاركاً لبعض أحلام هاني فحص في بعض وصلات أزمنة تاريخنا. وأكرر اليوم أني كنت مراهناً على «إصلاح ديني» بحثت عن رموزه وسبله في أمثال السيد من المتديّنين الذين لا يسألوني عن تديّني أو عن عدم تديّني.
نفتقد هؤلاء
المُؤسف والمحزن اليوم أننا بدأنا نفتقد هؤلاء مع سوناميات الطائفيات الحزبية المتذرعة بالإمامة والولاية هنا وبالسـلفية والخلافة هناك.
لم تعد جبشيت، كما عرفتُها أيام أحلام السيد هاني الجميلة والواعدة، كذلك لم تعد بقية قرى جبل عامل، بما فيها القرى التي عرفتها من خلال «أعمام» توزّعوا عليها «أئمةً» بين المروانية وتفاحتا والغسانية والصرفند، لم تعد هذه القرى على عفويتها وطبيعتها. لقد أصبح الدين والتديّن مطيّةً سهلة للسياسة والسياسيين، وأصبحت السياسة تعني «السيد الواحد» والزعيم الواحد، والمرجع الواحد. أما الشعب فأصبح «جمهوراً» أو «حشداً» يصفق ويكبر ويقدّس الولي ويتوهّم، كما أقنعوه، انه «الأشرف والأقدس».
هل تبخّر حلمنا يا سيد، في «لبنان مدني» سعيتَ برفقة الشيخ محمد مهدي شمس الدين، وعبر العودة إلى وقائع التاريخ اللبناني، إلى انتظام الشيعة فيه مواطنين مندمجين مع غيرهم لا غالبين ولا مغلوبين، لا حارمين ولا محرومين.
تقول معزياً النفس: «عندما يضيق بي لبنان أجد احتياطي الذهبي الوطني في العراق فأعلق امالي عليه، حتى لا أذهب إلى اللامكان».
ولكن ما العمل، يا سيدي، إذا ضاق بك العراق أيضاً وكما هو الحال اليوم؟، وقبله إيران وسوريا…!؟ أعلم جيداً أنك «مدمن أحلام»، ولكن من المكان… وإلى المكان… فهل جاز الحلم إلى «اللامكان» اليوم؟؟
في التاريخ ثمة مكان وزمان ضروريان للوجود وللحضور. لكني أغبطك سيدي، انك كنت قادراً على الحلم الدائم بفضل خيالك المبدع ولغتك الجميلة وذاكرتك التي يختلط فيها الواقع والحلم، وتدينك الذي لا يثير خلافاً مع أحد.