لبنان 1982- مخيّم صبرا وشاتيلا

صبرا وشاتيلا
ينشر موقع "جنوبية" مقتطف حصري من رواية طابق 99 للكاتبة اللّبنانية جنى فواز الحسن الصادرة عن منشورات ضفاف، ويسلّط المقتطف الضوء على بطل الرواية مجد الفلسطيني الناجي من المجزرة.

– يمّا! يمّا!

– إيش مالك؟

– أبوي باعت يقولك لازم نروّح عند خالتي زهرة بمخيّم البرج… وبيقولك اللّيلي حتكون صعبي.

– وليش ما إجاش أبوك يقعد معانا؟ وكيف منروّح لعند خالتك زهرة؟

لم تتمكّن والدتي من إكمال تساؤلها إلّا وبدأنا نشعر بالقصف والقذائف تُرمى علينا من كل صوب. كان الحمل قد أثقل جسدها ولم تكن قادرة على التحرك بسهولة. ثوبها مخطّط وفضفاض تجرّ بعضاً منه وراءها. تتحرّك في المطبخ، وتغسل الأواني، وتنشّفها بمنديل رخيص مهترئ عند طرفه لكثرة ما غلته في “دست” ألمنيوم كبير استعملته لتعقيم الملابس والمناشف.

بدأت تسمع أصوات الرشقات النارية في الخارج. أغلقت أبواب المنزل بإحكام، ووضعت يدها على بطنها. كانت تتمتم كلمات لا أفهمها، وتشتم الحرب والشتات، ثمّ تعود إلى المطبخ لتخرج حبّات البطاطا وتشرع في تقشيرها. لم أكن أفهم تلك القدرة العجيبة لديها في أن تستمرّ وأصوات القنابل تدوّي في الخارج، كأنّها اعتادت فكرة القتال، وتعمّدت أن تخلق حيّزاً خارجاً عنه ليعينها على الاستمرار في الحياة.

تسارعت دقّات قلبي، ودخلت أشدّها من ثوبها لكي تفلت البطاطا وتتوقّف عن الحركة، وتعترف أنّ الأمور ليست على ما يرام. التفتت إليّ، وقالت إنّنا سننتظر كي تهدأ الحال قليلاً ونذهب بعدها إلى خالتي زهرة. سمعنا طرقاً شديداً على الباب، مترافقاً مع صراخ والدي وهو يطلب أن نفتح له بسرعة. أفلتت حبّات البطاطا، وتركت المقَشّرة منها في المجلى. كانت آثار التراب عالقة على يديها. مسحتهما بثوبها وأخرجت المفتاح وهي تطلب من أبي أن يهدأ.

– اللّه يهدهم.

– مش وقت الأدعية إسّا.. أوّل ما بيروق الحال منروّح ع البرج. أنا تركت الشباب وجيتكم.

– إسّا جيتنا صرلك خمسة ايام غايب.

– مش وقت العتاب إسّا يا مرا.

لا يزال صوت أبي بنبرته القلقة  يتردّد في أذني، كما صورته وهو يحملني على ذراعيه بعدما أصبت بقذيفة في رجلي. أصبت لأنّي خرجت حين دخل علينا أبي لأحضر أغراضاً تركها أمام باب البيت. حقيبة وكيسان لم أعرف ماذا كان فيهما. لا أدري كيف حدث الأمر بسرعة. رأيت الدّمّ يسيل من وجهي أيضاً. لم اعرف أنّ شظيّة أصابتني هناك أيضاً. ركض أبي صوبي. أمّي صرخت، وراحت تطلب منه أن يأخذني إلى مستشفى غزّة وتدفعه بسرعة. كنت بين يديه وهو يهرع بي ليسعفني واختلط الدم مع عرقه المتصبب من جبينه قبل ان أغيب كليّاً عن الوعي.

– الصبي حيروح من بين ايدينا… روِّح أنا بدبّر حالي… روّح.

– كيف أروّح وأنتِ؟

– عمال اقوُلّك روّح.

مضى أبي، حملني بعيداً عن الموت ولم يتمكّن من العودة إلى أمّي والجنين الّذي لم يبصر النور. أحاطت القنابل المضيئة مخيّم شاتيلا بعدها وبدأت عملية الإبادة الجماعية. تعانقت الجثث على الأرض ولم يستطع أبي أن يعود ليخترق الركام البشري وينقذ أمّي. ربما لو خرجت معنا. ربما لو سبقتنا إلى خالتي زهرة. ربما لو لم تكن حاملاً. ربما لما كان وجه والدي قد تغيّر بعد المجزرة، ولم يكن قد تحوّل من ذلك البطل المغوار إلى الرجل المكسور، الّذي هدّته الحرب ومآسيها.

في العودة إلى الوراء، إلى يوم 16 أيلول 1982، وتحديداً إلى الساعة الخامسة عصراً، عندما بدأت المجزرة، لا مكان لحفظ التاريخ كرقم فحسب، بل تكاد الصور تتحوّل إلى حالة انبعاث من الموت وإليه. في محاولة لاستعادة الذاكرة، تبدو الأحداث دائماً ناقصة ومبعثرة، ليس لشيء إنّما لفظاعتها.

ارتبطت المجزرة في رأسي دائماً بالصمت، على الرغم من أنّ أبي هرب بي قبل أن يهدأ القصف، وتنقطع الروح عن المخيّم. لم تكن المذابح على شدّتها الأمر المدمّر الوحيد، بل فكرة العودة إلى هناك، إلى مكان يعبق بالقتلى، يكتم أصواتهم، ويحرمهم حتى من حشرجتهم الأخيرة كأن يعترضوا على القتل.

البطاطا المقشّرة والأواني الّتي وضعتها النسوة على النار، والملابس المنشورة على حبال الغسيل وأكياس النفايات الّتي تنتظر أن يخرجها أحد من المنازل. كلّ هذه الأشياء الّتي جمدت يومها في أرضها وكلّ الأشياء الّتي لم يعد أصحابها لأخذها.

كانت تلك المأساة، ككل مآسي الحروب، لا تنتهي بعد حدوثها، بل تخالها تبدأ من هناك، من حكايا الأشلاء المطمورة، والجثث الّتي لم تودّع الحياة بابتسامة على فراش المرض، كما تعوّدنا أن نرى في الأفلام، بل بنظرات ذعر واستجداء وتوسّل.

المذبحة الّتي رأيتها لاحقاً في الصور، وفي روايات بعض من نجا منها جعلت الموت يستحيل إلى صورة جزّار وسكين وأعين ملؤها الخوف. صرت، حتّى إن تلقّيت خبر حالة وفاة طبيعية، من عارض كالمرض مثلاً، لا أستطيع أن أتخيّل شخصاً ميّتاً إلا على هذه الحال، بضربة سكّين أو طلقٍ ناريّ. هذا التصوّر وحده كان كافياً لإشعال الحنق في داخلي ولتمنيّ الدائم أن أموت وأنا نائم في فراشي، مغمض العينين.

كان أبي يحملني بحثاً عن مخرجٍ ما قبل أن يصبح الحصار كاملاً. ذلك الصباح، عمّت المخيّم رائحة غريبة. كنّا كالفئران الّتي تستشعر وجود مصيدة في مكانٍ ما، مصيدة لا دليل مؤكّد على وجودها. خرجت قبل أن يحاصر المخيّم ويبدأ القتل.

لم أعرف يوماً كيف قُتلت أمّي، إن كان أحد المسلّحين قد اغتصبها أو إن كانوا قد شقّوا بطنها لأنّها حامل، كما فعلوا بنساء كثيرات. لم أعرف ماذا حدث للبطاطا.

بحسب ما تناقل الجيران، ومن بقي ليخبر، كانت أخت فوزي جارنا تحبو باتجاه ثدي أمّها القتيلة لكي تأخذه بفمها حين أطلق الجنود النار عليها هي الأخرى. جارنا سعيد حاول أن يقاومهم فركلوه على خصيتيه، وبصقوا عليه حتّى الموت. لم أستوعب يوماً عبارة “بصقوا عليه حتّى الموت”، البصق لا يقتل لكنّ الإهانة تفعل. لم يعرف أحد شيئاَ عن أمّي. لم يتركوا لنا حتّى روايةً عن مقتلها. لم يقل أحد إن كان صراخها قد دوّى في المكان. لم يعدّ أحد عدد الرصاصات الّتي أصابتها. لم يقل أحد شيئاً.

جارنا أبو حسّان نجا بأعجوبة لأنّه نجح في أن يختبئ  في “التتخيتة”. كان وحده في المنزل حين سمع المسلحين في الخارج. لم يستطع أن يبحث عن أبنائه وزوجته. كان يعرف أنّ لحظة خروجه من البيت ستكون لحظة انتهائه. “أصعب اشي بالدنيا تعرف انه الناس الي بتحبهم عم ينقتلوا جنبك، ومش قادر تعمل اشي”، قال لأبي وهو يعضّ على شفتيه بحسرة لتظهر خلف شفتيه المجعّدتين أسنانه المعطوبة بسجائر التبغ العربيّ ويلمع بينها سنّه الذهبيّ الوحيد.

روى أن المسلّحين دخلوا المنزل وقلبوه رأساً على عقب، وهو يحبس أنفاسه فوق. قال إنّه شعر ككسيح مرمي أرضاً لساعات طويلة والماء على بعد أمتارٍ منه وهو عاجز أن يصل إليه، لا زحفاً ولا مشياً. “لسنا رجالاً”، قال لأبي، “لسنا شيئاً على الإطلاق”.

حكايات كثيرة عن الموت بعد المجزرة. نساء يلطمن ويشتمن العرب والعروبة. أموات معبّأة في أكياس النايلون وجثث تطمر تحت التراب بلا أسماء. أكياس سوداء تحتوي، إن كان الميّت محظوظاً، جثّته الكاملة وإن لم يكن فأشلاءه. وربما أحياناً، وُضعت يد فلان مع قدم علّان. لا فرق. المهم كان أن يكتمل مشهد الموت. مقبرة جماعية حفرت ليضعوا الأموات فيها، من دون أن يكون لهم حقّ جنازة لائقة.

“أين أمّي؟”، سألت أبي بعدما عرفت بما حدث. لم يجب؟ “أين هي الجثة؟ هل من جثة؟”. صمت.

“ماذا حدث للطفل يا أبي؟”.

صمت.

لم يقل شيئاً. على مدى أيّام، لم يجب.

بعد فترة ولمّا برد جرحه قليلاً، صرت حين أسأله عنها، يقول لي “أمّك روّحت فلسطين لتولد هناك… أمّك روّحت ع فلسطين، وكلنا حنروّح ع فلسطين”. هكذا كان يجاوب على أسئلتي المزعجة من دون أن يحدّد موعداً للعودة، تلك العودة الّتي ظلّ حالماً بها، كمن صدّق فعلاً تحايله على الحقيقة، أو الكذبة الّتي أخبرها لولده الّذي لم يبلغ عامه الخامس عشر.

السابق
القاعدة تدعو «المجاهدين» للوحدة في وجه «الحملة الصليبية»
التالي
فاديا بزي: هكذا اعتقلني حزب الله حين كنتُ مقاوِمة شيوعية