حرب البراميل المحشوة متفجرات وشظايا معدنية… على حلب

من غير أن يتلفظ بكلمة، يتجول شاب على رأسه خوذة بين قضبان الحديد الملتوية، والحفر في الطريق، وجدران التنك المتفحمة. وبإحدى يديه يلتقط قطعة لحم بشرية من الأرض، وباليد الأخرى يزيح غطاء محرك شاحنة صغيرة مدمرة ويلمّ قطعاً أخرى، ويجمع القطع كلها بين يديه، ويرفعهما مفتوحتين إلى السماء. وإلى جنبه ولد مضطرب العينين والنظرات هو واحد من 120 متطوعاً في صفوف الدفاع المدني يتولون أعمال الإسعاف في أحياء المعارضة بحلب، ويبحثون عن البقايا التي خلفها الموت بين الأنقاض، فالبراميل المتفجرة التي تلقيها مروحيات النظام على أحياء السكن لا تقتل الناس وحدهم، بل تقتل الموت. وهي قصفت هذا الصباح كرم الميسَّر، فأوقعت جرحى وقتلت عشرين شخصاً. وعلى الرصيف آنية من حديد، وضعت فيها قدمان وساق. وغير بعيد من الآنية، ألقي غطاء على بقايا امرأة. ووقف رجل أبيض الشعر، هو زوج المرأة، ورفع عصاه إلى السماء وصوته راجياً: «الله يهدم بيتك يا…!».
ويقول أبو محمد الدين، وهو طبيب أمراض عصبية، عضو اللجنة الطبية في المدينة: «البراميل تقطع الإنسان قطعتين أو ثلاثاً، أفقياً وعمودياً، وتصيبنا نحن الأطباء بالرعب، فكيف بالسكان؟… السلاح الكيماوي يقتل المصاب ويبقي جسمه متماسكاً، أما بقايا هذه الأجساد فكيف يتعرف إليها أهلها الذين أحبوا أصحابها وأحاطوهم بحنانهم؟». وكان عميد في أجهزة الاستخبارات في دمشق أنذر في ربيع 2011 شخصاً قريباً من المتظاهرين في سبيل الحرية والديموقراطية وتوعده قائلاً: «سنحولكم إلى سمادٍ للتربة!»، فالبراميل تسحق الجثامين وتخلطها وتحيلها «عجيناً».
وفي مشرحة مرتجلة في حي السكري، تُجَمَّع أجزاء القتلى في أكياس توضع على أرض غرفة يحاول مكيِّفان جاهدَيْن إبقاء حرارتها 20 درجة في صيف حلب الحار. وتقوم المشرحة في أبنية مدرسة بنات. وعلى جدرانها رسمت وجوه نسائية يغطيها دهان أسود، قرينة على أن «جهاديي الدولة الإسلامية» كانوا هنا قبل أن تطردهم جماعات الثوار أواخر الشتاء المنصرم. واليوم، محمد أبو جعفر خليل هو قائد الموقع. كان الخبير القانوني هذا قبل الحرب موظفاً في الإدارة الحكومية. والجثمان الأول الذي استقبله في المشرحة هو جثمان فتى قتله أحد قناصة النظام في تموز (يوليو) 2012، ولم يكن يحمل بطاقة هوية، ولم يتعرف إليه أحد، فعرَّفه أبو جعفر بالحرف «أ» وبالرقم «1»، ودوّن في السجل علامات فارقة، مثل ثيابه وطوله ولون عينيه وشعره… وابتدأت به سلسلة طويلة من الضحايا.
ويعتذر الرجل عن افتقار إلى مشرحة لفحوص الحمض النووي الريبي. ويقول إنهم كانوا يفحصون خزعات شعر وجلد قبل اضطرارهم إلى التخلي عن هذه الفحوص الباهظة. ويساعده اليوم 8 أشخاص، وكانوا 17، يقول: «لم تعد حرباً تقليدية، جبهة الحرب هي الفضاء، والنظام يعاقب المعارضة المدنية على إنشائها إدارة اضطلعت تدريجاً بمهماتها، فعمد إلى قصف المجلس والمستشفيات والمدارس… وأجبر اختصاصيين ومؤهلين كثراً على طلب النجاة والهرب». ومنذ كانون الثاني (يناير) 2014، تقلص عدد سكان الأحياء التي تديرها المعارضة من 1.5 مليون إلى 300 ألف. وخلف القصف مدينة الشمال الكبيرة تُنازع بين الأنقاض وهياكل أبنيتها المحروقة.
على جدران صفوف المدرسة عشرات الصور لوجوه انسلت منها الحياة، ولأجزاء من أجساد مقطعة أو ثياب أو ضمادات أو أحذية. وتُذكِّر هذه الصور بثانوية بنوم بنه، تيول سفاي براي بكمبوديا في 1975. وعرف المبنى باسم اصطلاحي هو إس 21، وأصبح أكبر مركز تعذيب في عهد نظام بول بوت. ويقدر أبو جعفر أن 75 في المئة من ألف جثة نقلت إلى المشرحة تناثروا وتشظت أعضاؤهم. و80 في المئة منهم أثبتت هوياتهم. ويضطر الأهل في بعض الأحياء إلى اجتياز المدينة من أدناها إلى أقصاها مشياً لإثبات هوية أب أو زوجة أو ابن أخ، ويعدون بالعودة ونقل جثامين أحبائهم ودفنهم. ويقول أبو جعفر بصوت أقرب إلى الحشرجة:» لكنهم لا يعودون. فهم خسروا كل ما يملكون، بيتهم ومالهم فنتولى نحن الدفن»، على شاكلة توليهم دفن مَن يجهلون اسمه.
وعلى بعد مئات الأمتار من المشرحة، في بستان مهجور بمحاذاة طريق رملي، صبت صفوف من الأسمنت هي علامات ظاهرة على قبور. ويحمل القبر رقماً يرد إلى بيانات المشرحة. وعلى بعد أمتار قليلة، صف من ستة قبور صغيرة مرقمة هي لستة أولاد تركوا على أبواب المستشفيات ولم يطالب بهم أحد. ودُفن غيرَ بعيدٍ من المكان ولدان معاً على وجه السرعة، سنهما 5 أعوام و6 أعوام. ولم يسع أهلهما المشاركة في دفنهما، فالمقابر الرسمية إذا لم تكن مكتظة غير متاحة، وليس في متناول أهل القتلى بلوغها، ويحول دونها القصف بالبراميل وعسر المواصلات.
المدينة مقسومة شطرين: شطر غربي يسيطر عليه النظام، فيما جماعات المعارضة تسيطر على شمالها وشرقها وجنوبها. ويقتضي التنقل سلوك ممرات الموت التي يراقبها القناصة، أو القيام برحلة تستغرق 10 ساعات وتلتف على جيوب مناطق القتال والجبهات المستعرة. وحاول أهل أمير، وهو كان يدير فرناً للمعارضة في ملجأ بناية في أحد أحيائها، ويقيم أهله في أحد أحياء النظام، الالتفاف على مناطق القتال وحمل جثمان ابنهم. أفلحوا في الوصول، ثم في حمل الجثمان إلى مدافن العائلة. ودفن الابن الشاب في قبر جده، وعاد الأهل إلى الحي النظامي، حيث ليس في وسعهم تقبل التعازي والجهر بمقتل ابنهم وهو يدافع عن الحرية ويتامى الفقراء.

السابق
احباط اخطر عملية احتجاز رهائن في سجن رومية 
التالي
نهاية الليبرالية الصهيونية… واليمين الإسرائيلي