فقاعة الأمن انفجرت

أكثر من خمس سنوات على إعادة انتخابه رئيسا للحكومة، نجـح خلالهـا بنـيامين نتنياهو في الحفاظ على نوع من الفـقاعة الأمـنية حول مواطني إسرائيل. كانت هذه حجته الأساسية التي بفضلهـا واصل الإمـساك بالحكم، حتى عندما تزايدت الانتقـادات ضده في مجالات أخرى. وبروحية حملته الانتخابية عام 2009، بـدا قويـا ضد حمـاس وضـد العـرب أجمعين. في المحيط عمت الفوضى، ولكن في معظم أراضي إسـرائيل، عـدا أجزاء من الأطراف كان يمكن مواصلة العيش بالإنكار. فانعدام حل للنزاع مع الفلسطينيين، ضائقة قطاع غزة، التي تفاقمت مع تشديد الحصار المصري، خطر الصواريخ التي غطت كل مساحة الدولة، الهزة الهائلة التي أحدثها الربيع العربي، الذي حطم الاستقرار في الدول حولنا وزاد نفوذ جماعات الجهاد المتطرفة؛ كل هذه لم تخترق الفقاعة تقريبا. الجيش وأجهزة الاستخبارات خدموا على الدوام كعازل فعال بين الإسرائيليين والعاصفة القائمة في المنطقة.

وتفرغ السكان للاحتجاج على غلاء المعيشة وطلب تغييرات في أداء جهازَي التعليم والرفاه الاجتماعي. هذا العالم القديم تصدع بشكل أساسي في صيف 2014. أولا في أعقاب اختطاف وقتل الشبان الثلاثة في الضفة الغربية، حيث منعت جهود هائلة من جانب السلطة الفلسطينية نشوب انتفاضة ثالثة. بعد ذلك حرب الصواريخ والأنفاق في قطاع غزة. في هذا الصيف أطلقت صواريخ على إسرائيل أو وقعت حوادث عنف في كل حدودها، عدا الحدود الشرقية مع الأردن. يوم الأربعاء، كخاتمة قبيل وقف النار في غزة، احتلت منظمات معارضة سورية معبر القنيطرة السوري في الجولان، وأصيب إسرائيليان بجروح جراء انزلاق النار خطأ إلى أراضينا. الحرب فجرت فقاعة الأمن الشخصي التي بنيت بعد تآكل الانتفاضة الثانية. قريبا ستُحَمِّل تكاليفُ مقاتلة حماس المواطنين عبئا اقتصاديا كبيرا. والأمل بتغيير سلم الأولويات الاجتماعي، الذي كان على رأس السجال السياسي في السنوات الثلاث الأخيرة، قد يتبدد.

ونتنياهو يدفع الثمن في الاستطلاعات التي تشير إلى تدهور كبير في شعبيته، في ظل غياب نتائج حاسمة للحرب. في المؤتمر الصحافي الإجمالي للحرب اعترف رئيس الحكومة، بصراحة غير معهودة، بحدود القوة العسكرية الهائلة التي تستخدمها إسرائيل. فمحاربة حماس، أكثر من محاربة حزب الله عام 2006، تعبر عن طبيعة المنظومات التي تواجه الجيش الإسرائيلي: الحروب غير المتماثلة ضد منظمات إرهاب وعصابات، تهاجم الجبهة الداخلية في إسرائيل فيما تستتر خلف السكان المدنيين. في غزة دفعت إسرائيل ثمنا باهظا ـ أرواح 64 جنديا – مقابل إنجاز عسكري محدود نسبيا: تدمير معظم الأنفاق الهجومية التي حفرتها حماس. إنجاز أكبر ـ احتلال القطاع وإسقاط حكم حماس – كان على ما يبدو سيكلف أرواح مئات الجنود الآخرين، الأمر الذي كان الجمهور الإسرائيلي سيعتبره لا يطاق. ليس واضحا كيف كانت إسرائيل ستتحرر من إدارة شؤون 1.8 مليون فلسطيني في القطاع لو أنها تخلصت من حماس فعلا، وكم يتطلب الأمر من الجيش الإسرائيلي لضرب كل شبكات الإرهاب في القطاع بعد إتمام مهمة الاحتلال.

إن التعادل في الحرب ـ وهذا يبدو التوصيف الأفضل، رغم جهود الدعاية المكثفة في الطرفين – كشف سلسلة مشاكل صعبة في الحلبة السياسية وفي أداء الجيش. فالخطط العملياتية الأصلية للجيش في القطاع عموما لم تستخدم. على الدوام هناك فجوة بين الطريق التي يستعد بها الجيش للحروب وبين ما يجري فعليا، لكنها هنا كانت عميقة جدا. في غزة تم تغيير الخطط في اللحظة الأخيرة، وذهب الجيش في مهمة برية قطاعية، ضرب فيها كل الأنفاق التي علم بأمرها على طول الحدود، لكنه لم يتقدم لعمق يزيد عن كيلومترين أو ثلاثة في الأرض الفلسطينية. فالقيادة السياسية الأمنية: نتنياهو، وزير الدفاع موشي يعلون ورئيس الأركان بني غانتس، لم ترغب في خطوة برية كبيرة. كبديل، صادقت على ضرب الأنفاق: هدف تكتيكي أعلن كهدف استراتيجي. نظرية مكافحة الأنفاق، اكتشافها وتدميرها، طورت على الطريق. هكذا اكتشف الجيش أن قصف الفتحات من الجو قبل الدخول للقطاع كلف القوات البرية يومين أو ثلاثة أخرى للبحث عن مسار الأنفاق، حينما بدأت العملية ميدانيا.

وخلال الحرب، ولكن بشدة أكبر بعدها، يتفاخر الجيش، وبحق، بالانجازات التكتيكية للاستخبارات: فعلا كان لدى القوات معلومات وفيرة وأدق من الماضي عن انتشار العدو ميدانيا. ويبدو أنه كانت لشعبة الاستخبارات العسكرية وللشاباك صورة جيدة نسبيا عن منظومة الأنفاق الهجومية، لكن هذه المعلومات لم تترجم في إعدادٍ كافٍ على مستوى الكابينت، الذي يشهد عدد من أعضائه على أنهم لم يكونوا يعرفون عن حجم الخطر ومستوى التنفيذ، حينما اضطرت قيادة الجبهة الجنوبية والفرق للارتجال في الزمن الحقيقي. ومن المشكوك فيه أن الاستخبارات الإسرائيلية كانت قد حلت بالكامل لغز نوايا العدو. وحتى إذا زعمت الاستخبارات العسكرية شيئا مغايرا، هناك من يؤمن بأنه في حينه لم يفهم أحد أن حماس تتجه إلى حرب كبيرة لكسر الحصار، وتبلورت تقديرات متفائلة جدا بشأن الوتيرة التي ستنهار فيها حماس تحت الضغط العسكري. وفي الميدان السياسي، برز التوتر في العلاقات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، والتي جذورها تعود إلى عدم وجود كيمياء بين نتنياهو والرئيس باراك أوباما. وقد كتب الكثير عن وقف الرحلات الجوية المدنية من الولايات المتحدة لـ 36 ساعة، ولكن ما هو أخطر من ذلك كان التأجيل المقصود لشحنات سلاح وذخائر من أميركا إلى إسرائيل في زمن الحرب. وشملت هذه الشحنات ليس فقط صواريخ هيلفاير للمروحيات، وإنما تشكيلة كبيرة من الوسائل القتالية. وكانت هذه رسالة غير لطيفة على وجه الخصوص من واشنطن لتل أبيب، تثير أفكارا مختلفة بشأن السؤال كيف كانت إدارة أوباما ستتصرف في حال قيام إسرائيل بهجوم غير منسق معها على إيران.

بل إن إسرائيل وصلت إلى اتفاق وقف النار في القاهرة تقريبا من دون مساعدة أو تنسيق مع الولايات المتحدة. لقد أبرزت الحرب الفجوات في بناء القوة في الجيش الإسرائيلي. فمنذ أكثر من عقد من الزمان تفضل هيئة الأركان، أكثر من السابق، الاستثمار في سلاح الجو وشعبة الاستخبارات، على الاستثمار في القوات البرية. والذراع البري، عدا فترة قصيرة بعد حرب لبنان، مر بفترة تقتير في الميزانيات، التسلح والتدريبات. والآن أيضا، لا يزال أكثر استعدادا لمواجهة فرق مدرعة سورية أو مصرية، رغم أنها لا تظهر في الأفق، منه لمواجهة التحديات التي تفرضها منظمات عصابية متخندقة تحت الأرض ومسلحة بكثافة بصواريخ لكل مدى. لكن في غزة تبين ثانية، أنه حتى بعد الاستخدام المكثف للقوة الجوية، يمر وقت طويل قبل أن تتآكل إرادة القتال لدى الخصم. وقد أظهرت وحدات الجيش الإسرائيلي روحا قتالية تستحق الثناء، لكنها في كل اقتحام لمنظومة دفاعية مكثفة، فوق أو تحت الأرض داخل منطقة مبنية، كانت تدفع ثمنا باهظا. والجمهور الذي تفهم خسارة أرواح الجنود في الأنفاق، كان على ما يبدو سيبدأ يسأل أسئلة لو أقيمت مئات الجنازات العسكرية، كما توقعت قيادة الجيش في العرض الذي قدمته أمام الكابينت عندما ناقشت احتمال إعادة احتلال القطاع بأسره.

وينبغي أن نضيف إلى ذلك تأثير الإعلام والجدال الهستيري بعض الشيء، الذي يميز الشبكات الاجتماعية في إسرائيل. فقبل يوم واحد من نشوب الحرب في الجنوب سألني قائد لواء على الجبهة الشمالية حول كيف ستتصرف وسائل الإعلام في حال وقوع حرب ثالثة مع لبنان، وهل انها ستبدي تفهما لمواضع خلل محلية ولأضرار في الجبهة الداخلية، وتسمح للجيش الإسرائيلي بامتلاك طول النفس المطلوب لتركيم الإنجازات. وعلى وجه العموم، فإن قنوات الإعـلام المركزية احتضنت الحرب في غزة في اندفاعة وطنية واحتضنت الجنود. وفقط عند اقتراب نهاية الحرب بدأت مرحلة «الأسئلة الصعبة». فجأة، غدا كل فعل علني من جانـب مسئول أمني رفيع المستوى موضـوعا للنقاش الوطني العام. وقد تلقى رئيس الأركان الضـربات بسبب «خطاب شقائق النعمان» التي ستتفتح والذي اعتبر اندفاعة مفرطة من جانبه في توقيت سيئ، ووزير الدفاع بسبب إلغاء زيارته لناحال عوز (حيث قيل ليعلون إن «أناسا سيموتون هنا بسببك»، حينـما تلقى الكيبوتس قذائف هاون قبيل وصوله، ورغم ذلك بدا أنه كانت هناك حاجة لإيجاد سبيل لفرض رغبته على حراس الشاباك والوصول إلى هناك). وعندما تسأل عما تعلمه حزب الله من قلة حول الجيش الإسرائيلي في هزيمة حماس، ينبغي أن تسأل أيضا ما الذي استخلصه عن منعة المجتمع الإسرائيلي في النقاش العام الذي دار في الأسبوعين الأخيرين للحرب.

(هآرتس)

السابق
«بوكو حرام» تجبر المسيحيات على الزواج بإرهابيين
التالي
اشتباكات عنيفة بين الجيش السوري وجبهة النصرة في هضبة الجولان