فضل الله: التيارات الإقصائية والإلغائية تستهدف المسلمين والمسيحيين معاً

بدعوةٍ من ملتقى الأديان والثقافات للتنمية والحوار، أقيمت في قرية الساحة التراثية ـ طريق المطار، ندوة بعنوان “العلاقات المسيحية ـ الإسلامية والتحديات الراهنة”، حضرها عدد من الشخصيات الدينية والثقافية والاجتماعية والتربوية والدبلوماسية والإعلامية، تقدَّمهم الأمين العام للجنة الحوار الإسلامي المسيحي، حارث شهاب، رئيس الرابطة السريانية، حبيب أفرام، ممثل الأقباط والناطق الإعلامي في اتحاد الرابطات المسيحية اللبنانية، إدمون بطرس، السفيران السابقان عبدالله بوحبيب، وجودت فخر الدين، قنصل السودان الدكتور التيجاني إبراهيم.

أدار النّدوة عمر المصري، فقدَّم في البداية الشيخ بلال الملا، الذي ألقى كلمةً جاء فيها: “إنَّ ارتباط المسيحيّين بالواقع العربي في هذه الأرض، لهو ارتباط وثيق، وما يجمعنا أكثر بكثير مما يفرّقنا… وإنّنا كمسلمين، لا نرتضي أن يتمّ التعاطي مع المسيحيّين ولا مع غيرهم كأقليّات، ولا ينبغي لهم أن يقبلوا بذلك، فنحن جميعاً عرب…”.

مظلوم

ثم كانت كلمة النائب البطريركي العام، المطران سمير مظلوم، جاء فيها: “إن مستقبل المسيحيين في لبنان، وفي الشرق عموماً، كما مستقبل العيش الإسلامي المسيحي المشترك، ليسا قاتمين بالضّرورة، ولكن لا بدَّ من الإقرار بأنهما واقفان على مفترق خطير، فإمّا أن نحمل معاً مشروعاً نهضوياً عربياً يشمل المنطقة بأسرها، ويكون لبنان في طليعتها، وإما أن يفقد لبنان رسالته، ويخسر الشّرق هذه العلاقة المميّزة، وهذه النكهة التي يخصّه بها المسيحيّون…”.

فضل الله
واختتمت الندوة بكلمة رئيس ملتقى الأديان والثقافات، العلامة السيد علي فضل الله، جاء فيها: “لقد رسم الإسلام قاعدة العلاقة مع المسيحيّين، استناداً إلى العناصر المشتركة التي تحكم علاقتهما ببعضهما البعض، والّتي ينبغي أن تدفعهما إلى بناء مشروع عمل واحد، إن تحقَّق سيساهم في إذابة الجليد أو التوتّر الّذي ينتجه الخلاف في اللاهوت وغيره”.

وأكّد سماحته أنّ الإسلام لم يكره المسيحيّين على التخلّي عن خصوصياتهم العقدية والثقافية، بل دعا إلى تأسيس أفضل الرّوابط معهم، على قاعدة البرّ والقسط، لافتاً إلى أنّ التفاعل الاجتماعي والحضاري بين المسلمين والمسيحيّين، كان منذ فجر الإسلام ثمرةً من ثمرات التوجيه القرآني، الذي خصَّص المسيحيّين من أهل الكتاب بأفضل صور العلاقة، والّتي ازدهرت وتنامت طوال العهد النبوي الشّريف.

وتابع: “كان لا بدَّ من عرض هذه الرؤية التأسيسيَّة لنظرة القرآن الكريم، والتي تجسَّدت غالباً في العلاقات المتينة والدّائمة بين المسلمين والمسيحيّين، تمهيداً لمقاربة أهمّ العوامل التاريخيَّة والسياسيّة الّتي ضربت تلك العلاقات في صميمها، وصولاً إلى ما اعتراها في العصر الرّاهن من تحدّيات وأزمات عميقة، سوف نتناولها في ضوء الملاحظات التالية:

أوّلاً: يجب أن نضع فاصلاً موضوعياً بين المسيحية الدين والكنيسة، التي حرصت على أفضل العلاقات مع المسلمين، والمسيحية الدولة التي أعطت لنفسها عنوان الدين، وواجهت المسلمين بعدوان سياسي وعسكري في بعض المحطات، كانت حروب الفرنجة أبرزها.

ثانياً: لقد اضطربت العلاقات الإسلامية المسيحية بفعل الأحداث الخطيرة والفتن الكبرى التي أعقبت الخلافة الراشدة، وانتشار فوضى التأويل والتأويل المضاد، والتي أنجبت فرقاً إسلامية ذهبت بعيداً بلغة الإقصاء والعنف، كما أنتجت فقه الاستبداد والاضطهاد، ليس ضد المسيحيين فحسب، بل ضد كل من يخالفها في الرأي والاجتهاد أيضاً، وقد ساهمت بعض الفتوحات في الإساءة إلى هذه العلاقات، عندما خرجت عن التعاليم الإسلامية.

ثالثاً: إن أحداث العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر في بلادنا، وما لابسها من تطورات، دفعت بالمسلمين والمسيحيين إلى أن يكابدوا معاً أخطر التحديات الراهنة.. حيث انتهى المشهد السياسي إلى سقوط منطقة المشرق العربي، ودخولها تحت مظلة الانتداب الفرنسي والبريطاني، ورسم خرائط طائفية ومذهبية تمزق الجامع العربي والإسلامي لبلادنا، وتأسيس كيان يهودي طائفي عنصري، وبعد ذلك، إنشاء أنظمة وحكومات على أسس طائفية، مروراً بإنعاش كل طموح يتستر بالمذهب أو العرق، لتعميق التناقضات والانقسامات، وتغذية كل حالات التشرذم”.

وقال: “لقد شهدت بلادنا في ضوء هذه المعطيات، تيارات إلغائية إقصائية متطرفة، تنتمي إلى هذا الدّين أو ذاك المذهب أو تلك الطائفة، لكنها لم تصل إلى المدى الذي وصلت إليه التيارات الراهنة، سواء في حجمها، أو في تجسيد رؤاها الإلغائيّة في استخدام العنف بهذه الضّراوة، أو في تناميها وتوسعها في شكل غير مسبوق، بلغ ذروة الخطر بقتل المسيحيين والأيزيديين وغيرهم من الجماعات، وتهجيرهم من مدنهم وقراهم، وممارسة جميع ألوان الترهيب والضغوط والتهديدات والإكراه بحقّ أولئك الذين لم تسعفهم الظروف بالهروب.

إنَّ هذه التيّارات لا تستهدف المسيحيّين فحسب، بل استهدفت وتستهدف المسلمين على مختلف مذاهبهم، ممن لا يوافق هؤلاء على أفكارهم وسياساتهم، وهي تلحق أشدّ الأضرار بالإسلام كدين رحمة وتواصل وانفتاح… وهي إذ تقوّي الصورة المعادية للإسلام في العالم، وتهدّد الكثير من الجاليات الإسلامية، في ظل ارتفاع موجة الإسلاموفوبيا (رهاب الإسلام)، فإنها تعزز من شرعية الدعوة إلى دولة يهودية عنصرية، وتبرر الكثير من المجازر الصهيونيّة بحقّ الفلسطينيّين، ما يدعونا، كعرب ومسلمين ومسيحيّين، إلى الوقوف في مواجهة هذه الظاهرة.

ويمكن في هذا الصّدد اقتراح نقاط عدة:

أوّلاً: المواجهة المشتركة لمشاريع تقسيم الشرق الأوسط، وتمزيق شعوبه ونسيجه المجتمعي وهويته الحضارية. كذلك، مواجهة مشاريع الإرهاب التكفيري والتطرف الديني، الرامية إلى ضرب العلاقات الإسلامية ـ الإسلامية، وإكراه المسيحيين على تغيير دينهم، وتهجيرهم من ديارهم وأوطانهم.

ثانياً: مواجهة مشاريع الاحتلال والهيمنة الاستعمارية الجديدة وعدوانيتها السافرة لتغيير الواقع الديمغرافي، من دون أي تمييز بين مسلم ومسيحي.

ثالثاً: العمل معاً لكسر ظاهرة الصمت، واللامبالاة، والتجاهل، والجهالات، وحملات التشويه المستمرة لقيم الدينين الكريمين، والتأسيس لرؤية إيمانية وأخلاقية مشتركة، تخرج المسلمين والمسيحيين من رواسب الماضي، لنواجه معاً بالمسؤولية المشتركة والقيم المشتركة، أسئلة المستقبل وتحدّياته القادمة، فلا يكفي أن نكون على أرض واحدة لتكون العلاقات المسيحيّة ـ الإسلاميّة سليمة”…

السابق
السيد فضل الله: ليبرالية غولن بنسختها الشيعية
التالي
جبهة مفتوحة؟