المشرق… مسيحيين ومسلمين.. أين أجد النبرة الصحيحة؟

لا أجد النبرة الصحيحة للكتابة عن مسيحيي لبنان، في هذه الظروف بالذات: هل لأنهم في خطر محدق؟ فلا تنفع معها الكلمات الحلوة، الإنسانية، المبلسمة لجروح النفس؟ هل لأن كلماتي قد تنقذهم، قد تحفظ وجودهم من الاندثار؟ أم أنها، أي الكلمات، التي سوف تحمل السخط والإدانة لما يتعرض له نظراؤهم بالدين من إبادة منظمة؟ أم تكون نذير شؤم، دعوة لليقظة والانتباه إلى مصير لاحق أسود؟ أم رسالة تضامن من القلب، مع أخوة لنا في الوطن، مؤسسون له، صائغون لفرادته، هم الآن بصدد الرحيل أو السلبية أو التبخر عن أراضي هذه البلاد؟ أين أجد النبرة الصحيحة؟ هل أروي عنهم قصصا بصفتهم أفراداً أناروا دروب حياتي، ورافقتُ بعضهم حتى الممات؟ وبكيت عليهم أكثر مما يبكي المرء أقارب له؟ وبغية ماذا؟ للقول بأن لا بد منهم وإلا انتفت ذاكرتي وذاكرة من حولي وصارت علبة فارغة لا صدى لها غير طنين الموت؟

لا أحب الكتابات الظرفية، مع أن كل الكتابات ظرفية. ولكن هذه تحديداً معرّضة لخطر الميلودراما، للبكائية على عالم انقضى جزء منه، والباقي على الطريق… كالقول «رزق الله كم كانت الحياة أغنى وأعمق وأكثر حرية» عندما كان المسيحيون أصحاب أدوار في السياسة كما في الاجتماع. أو لتذكّر قول مسنّو الجنوب اللبناني، والقائل بأن «الحارة اللي (التي) فيها نصارى، فيها حضارة». أو لمجرد الملاحظة البسيطة، التي ما زالت قائمة حتى الآن، مع تضاؤل دور مسيحيي لبنان، بأنهم، أي المسيحيين، هم أعلى درجة من مسلميه في الذوق والثقافة والنظافة والنهج والقيم؟

لا أشعر بالقدرة على الكتابة في هذا الشأن بصفتي امرأة مسلمة عرفت في حياتها مسيحيين بقدر ما عرفت من المسلمين. ذلك أنني لست مسلمة إلا بالقدر اللازم. فقط في بطاقة هويتي أنا «مسلمة». والدايّ، المختلفي المذهب، كانا يصومان في رمضان ويحتفلان بعيد الميلاد وشجرتها، لا مسايرة لجيران، إنما حباً بقصة ولادة السيد المسيح، وببهجة مناسبتها السنوية، إكتسباها من هجراتهم المتنقلة. حدود أخرى لإسلاميتي كانت هي أسطورتنا العائلية، وتتلخص بسيرة إمرأة، مريم القسيس، جدة أمي، الكاثوليكية اليبْرودية (يبرود)، المؤسسة الأولى لنسويتي، التنظيرية، ولنسوية جدتي وأمي، الميدانية، والتي تشكل الركن العضوي الأول لهويتي الأنثوية. أو الأب عفيف عسيران، صديق طفولة أبي، الذي نشأ مثله في مدرسة الفرير ماريست، «الأخوة المريميين»، في الرميلة، شمال صيدا؛ «الخوري المتوالي»، كما سمي بعدما اعتنق المسيحية، وصار راهباً مرموقاً، يصطحبني أبي معه عندما يزوره مراراً في دير مشموشي؛ والذي بفضله دخلت مدرسة الراهبات، فكان لهن بصمتهن على طبائعي وتصوري لنفسي؛ صحيح انني اختلفت مع الراهبات، خصوصا اللبنانيات من بينهن، حول هويتي العربية، وكانت النقاشات معهن حامية، أحياناً عنيفة، تسببت لي بعقوبات؛ ولكنهن أورثنني كنزاً من الألحان الكنائسية والكلاسيكية والسجود الصوفي والقواعد الأخلاقية الصارمة، وحب العمل، والانضباط بمواقيته. ثم أتى العمل السياسي في حزب علماني والجامعة اللبنانية التي كانت «بوتقة التلاقي» بامتياز بين أبناء كل لبنان، حيث كانت تنعقد الصداقات والغراميات والزيجات والزمالات المهنية في لجة اللقاء بين أبناء مناطق وطوائف لبنانية (وليس كما الآن، لكل طائفة ومنطقة فرعها الرسمي).

أما في واقعي المعيوش اللاحق على نشأتي، فأنا مزيج شديد العضوية لشيء من الشيعية وآخر من السنية والمسيحية والكثير الكثير من محددات أخرى لهويتي لا تمتّ إلى الدين بصلة، إلا من باب العلم. لذلك لا يمكنني الكتابة عن مسيحيي لبنان من دون أن أحمل نفسي مسؤوليتهم، ليس بصفتي «مسلمة»، إنما بصفتي مواطنة لبنانية، تجمع في أناها القدر المتساوي من المسيحية والإسلام، لا تفرق بينهما، إلا إجرائيا، من اجل الوصف والتحليل؛ ولا ترى بأنها سوف تبقى على هذه الأرض عندما سوف يغادرها المسيحيون، إذ تكون قد ذبحت على يد طارديهم، بصفتها «مرتدة«. فمصيري الشخصي من مصير المسيحيين.

وما أراه أجدى من استعادة ذكريات عن أيامنا الجميلة، في ظل الدور الأقوى الذي لعبه المسيحيون، مع الرحابنة، في اختراع هذا الوطن الحلم الذي هو لبنان؛ اللبنان الذي لم يكن، من زاوية نظر التاريخ المديد، سوى هدنة، جاءت بعد حروب؛ أو بالأحرى حروب تخلّلتها هدن، منها هدنتنا اللبنانية، ذاك العصر الذهبي الذي يوجع القلب عندما نتذكر فرحه وتفاؤله ونبضاته الراقصة… ما أراه أجدى من كل هذا الجمال المقهور، هو ان محاولة إنقاذ المسيحيين، إنقاذنا، يترتب عليه الكتابة عن مسؤولية المسلمين كوحدة تاريخية وأيديولوجية في إدامة زمن الحروب، وتقصير مدد الهدن. ولكي لا تأخذ هذه المسؤولية حجما يفوق طاقتهم، فتفشل المهمة، ليس على المسلمين الآن سوى مراجعة بعض الشؤون التاريخية بهم.

فالمسيحيون طوال العصور التي عرفوها مع نظرائهم المسلمين، تعرضوا لمجموعات متتالية من الأوصاف، التي لم تنتزع منهم حتى هذه اللحظة: على يد الفتوحات الإسلامية كانوا «ذميين»، يقدمون الجزية وهم «صاغرون». أثناء الحروب الصليبية وبداية الانهيار العثماني والصدام مع الاستعمار الأوروبي ومن بعده الأميركي، كانوا «العملاء»، «الأقلويين»، الذين لم يتمكنوا من الاندماج في المجتمع المسلم فصاروا أوتوماتيكياً، بقوة الأشياء، بالكمون، «عملاء الخارج»؛ وهذه صفة لم يقتصر مطلقوها على جيوش صلاح الدين أو العثمانيين الأواخر، إنما كان من عداد حامليها أيضا يساريون وقوميون وبعثيون، في زمن الاستقلالات الذي لا ينتهي. ثم أتت نظرية «الأقليات»، التي يحملها المحور الإيراني مثل شعلة في درب توسعه، فيورط المسيحيين بالتحالف مع الديكتاتوريات… وإلا الفناء؛ وأخيراً، فتش في ضمير كل مسلم، أو غالبيتهم، إذا شئتَ تجنّب التعميم، وسوف تجد بأن المسيحي مثل اليهودي إلى النار حتماً، كافر، لم يسلم لدين الله. فجاء هذا الأخير، أي الفناء، على يد «داعش»، الذي دار ودار ثم ختم الحلقة التاريخية بأن عاد إلى النقطة الأولى، نقطة الذمية، نقطة التكفير، الأشد فتكا من سابقاتها، الأشد عنفا من نموذجها الأصلي. هكذا يقوم «داعش» من غير قصد بإعادتنا إلى حلقات التاريخ غير المنسية، النائمة فقط في أحضان اللاوعي الجمعي المسيحي والإسلامي على حد سواء. فصورة العميل والذمي والأقلوي لم ترتح يوما أو تسكت. لم تبارح مخيلة الجميع، لم تترك لهدناتهم القصيرة نفساً يلتقطونه، فينمون مثل بقية خلق الله، في أوطانهم الأصلية التي انتزعها منهم الإسلام واليهودية، فيتثقافون مع المختلفين عنهم، ويعطون للبشرية شيئا مضيئا مفيدا، يساعدها على لياليها الطويلة المعتمة القادمة، لا ريب. فلا نتساذج، ونتأمل بالسلام الدائم. السلام الدائم ليس من طبيعة البشر والأشياء. هو من صناعة حضارتهم وإرادتهم ومدنيتهم.

أعلم بأن هذه ورشة طويلة، فيما نحتاج نحن إلى شيء عاجل، يفك أسر المسيحيين والإيزيديين والشيعة والسنة «المرتدين»، لنبعد هجمات «داعش«، لنوقفها عند أبعد من جرود عرسال، شرقي لبنان. نداء أو استغاثة روحية، كلمة تخفف من أوجاعها. شيء من التفاؤل، قليل من التفاؤل بما تخبئه لنا تلك الحياة. ولكن أين أجده؟ ذاك التفاؤل؟ في وجوه المغادرين، المروعين، المعتصرة قلوبهم على الفراق؟ أم في وجوه الباقين، قصراً، أو نصف قصر، الذين يغرقون قلقهم في الثرثرة الأبدية عن ذكريات تتضخم ذهبيتها كلما ساءت يومياتهم؟ كلما انتهكت كرامتهم؟

أشعر أنني لم أكتب شيئا «مفيداً»؛ شيئا يحمل عل تشاؤماً أقل، سلبية أقل مما نحن عليه الآن. ولكنني لست من النوع اليائس البائس. أنا تبنيتُ اليأس وأضفتُ له السعادة، بنفس قدره؛ فأنا لا أستطيع العيش من دونهما، من دون اليأس والسعادة. الأول ملح عقلي، والثانية ملح روحي. يائسة من إمكانية أن تتحسن أي أمور في المدى المنظور، فتنتابني عبثية الكتابة، عبثية كل شيء. ولكن حنيني الدائم الى السعادة يلغي العبثية، يروّضها، ويحول الرجاء، ملح الروح، إلى ملح للعقل، في عملية أكروباتية دائمة، أو قلْ جدلية، لا تنتهي، تسير بخطى نهر أبدي.

السابق
كلية العلوم في اللبنانية تُجري اختبار كفاءة لحَمَلَة الإفادات
التالي
من يهددّ السلامة العامّة في لبنان؟