ضحالة الأهلية الثقافية لرجال دين

من يخبرنا عن مستوى أداء وجهالة بعض “العمائم” في بعض زواريب المدن وبعض بيئات القرى السنّية والشيعيّة من تعميم صارخ وساذج للفكر الغيبي وخرافاته الأكثر بدائيةً وعنفاً؟

لم تفاجئني من الناحية السياسية خطبةُ مفتي المسلمين في الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان يوم وبعد انتخابه في العاشر من آب الجاري. فقد كان من الطبيعي، وهو قاضي القضاة الرصين، أن تكون خطبةً توحيدية على أكثر من مستوى معروف ومتوقّع داخل الطبقة السياسيّة والدينية السنّية وبين السنّة والشيعة وضد التطرّف.
الذي استأثر باهتمامي في هذه الخطبة هو البعد الثقافي الذي، يجب أن لا ننسى، هو المستوى الأرفع لقياس السياسة تقدّماً أو تخلّفاً. لقد توقّفت تحديداً عند مقطع من الخطبة أجده في غاية الأهمية، وهو المقطع الذي يدعو فيه إلى “إعادة النظر بالجهاز الديني” ويعتبر “وضع” هذا الجهاز “غير مطمئن” لا بل يذهب أبعد في توصيف هذا الجهاز” بأنه “يعاني من عدم الكفاءة”.
على أن الكلمة الأكثر جدية وشجاعة من قبل المفتي الجديد هي دعوته لـِ”العناية بثقافة الأئمة والخطباء في المساجد”.
… نعم “العناية بثقافة الأئمة والخطباء في المساجد” أي مستوى الأهلية الثقافية.
يضع المفتي يده على مسألة خطيرة في زمننا الراهن هي مستوى ثقافة رجال الدين، في مجتمعاتنا العربية، مسلمين ومسيحيين. لكن بما أن الأزمة في ظل الهيمنة الأصولية الإسلامية على حيواتنا العامة هي أزمة مسلمين، دولاً ومجتمعاتٍ وأجهزةً دينيةً مسلمةً تمارس التعبئة السياسية بشعارات دينية، فإنني سأحصر ملاحظاتي في هذا النطاق المسلم، سنّةً وشيعة.
دعونا “نترجم” كلام المفتي دريان، الذي لا أعرفه شخصيا، وأرجو أن أكون مصيباً في هذه “الترجمة”:
يعتبر المفتي ضمناً أن هناك ضحالة في بعض عناصر الجهاز الديني أي بين رجال الدين. وأن المهمة الخطيرة التي يتولّونها تجعل عدم الكفاءة ظاهرة مؤذية جدا.
في كل سلك سياسي أو ديني، علمي أو اقتصادي، عسكري أو مدني عناصر كفؤة وعناصر غير كفؤة، قوية أو ضعيفة، متمكّنة أو محدودة. ولذلك فالذي يشير إليه الشيخ دريان ليس أمرا غير طبيعي. غير الطبيعي هو أن الحصانة التي يتمتع بها رجل الدين كونه ناطقاً باسم المقدّس تجعل الخلل في تكوينه الشخصي أو المعرفي بمجال اختصاصه ذا نتائج اجتماعية وسياسية مؤذية. خصوصاً في هذا الزمن الذي تتضاعف فيه الأجهزة الدينية رسمية وخاصة مما يجعل هذا السلك ذا حجمٍ ضخم وكلفته الاقتصادية أضخم من أن تتحمّلها دولٌ كدولنا في المنطقة إما منهكة أو على شفير الانهيار وإما منهارة. وهي دول تحتاج بالحد الأدنى للإنفاق على مجالات منتجة.
ربط المفتي دريان مسألة عدم كفاءة بعض الجهاز الديني بشكلٍ أساسي بضرورة مواجهة التطرّف. وهي ضرورة مهمّة بعدما بلغت الأصوليات الدينية درجة الهمجية التي تتطلب أكثر من دعم الاعتدال. غير أن هناك ضروراتٍ أخرى متّصلة بكل مستويات حياة مجتمعاتنا.
الظاهرة تشمل الشيعة والسنّة وتتخطى مجرد الجهاز الديني الرسمي التابع للدولة والذي يظل، قياساً بالفلتان العمائمي في القطاع الخاص، أكثر خضوعا أو أقلّ عدمِ خضوعٍ للرقابة والمساءلة العلمية والثقافية التي يطالب بها المفتي دريان في نطاق دار الفتوى ولكنه يعلم أن الظاهرة السلبية أوسع بكثير من جهاز من أجهزة الدولة.
من يخبرنا عن مستوى أداء وجهالة بعض “العمائم” في بعض زواريب المدن وبعض بيئات القرى السنية والشيعية من تعميم صارخ وساذج للفكر الغيبي وخرافاته الأكثر بدائيةً وعنفاً، في وقت تزدهر هذه “العمائم” كجزء من أجهزة منتشرةٍ وغيرِ معلنةِ التمويلِ معظم الأحيان وقسمٌ منها مجرد كوادر عسكرية أو سياسية ولكن دون ثقافة إسلاميّة كافية وغالباً دون معرفة بالثقافات وخصوصاً الديانات الأخرى.
المستوى المتدهور لاستخدام الدين الإسلامي بدأ يدمّر دولنا ومجتمعاتنا. ولذلك فإن دعوة المفتي لـِ”العناية بثقافة الأئمّة وخطباء المساجد” ولو أنها في نطاق مسلم سنّي لبناني فهي تطال ظاهرة خطيرة في قلب المجتمع المسلم سُنةً وشيعةً. وعلى سماحته أن يعرف أنه بوضعه الأهلية الثقافيّة لرجالِ دينٍ موضعٓ التساؤلِ أصاب عصفورين شيعيّاً وسنّياً معا بل عصافير عدة في المنطقة.
مع كل الاحترام لرجال الدين الاكفاء والعقلاء والمتنوّرين.

السابق
دوفريج: الاعتدال هو المستهدف ولبنان بحاجة الى رئيس مرجعية
التالي
انطلاق فعاليات الجمعية العمومية للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين