الولد سرّ أبيه (3): هكذا صرتٌ أبي.. تاجر المخدّرات

الحرب الأهلية
دخلت إلى الحي فوجدته جالساً على حجر مكوراً جسده ورأسه يكاد يلامس أصابع قدميه. حين شعر بخطوات قادمة نحوه رفع نظره، حدق بي كأنه تلميذ ينظر إلى خارطة العالم. يا الهي كم يشبهني هذا الرجل بملامحه الفريدة من نوعها. لقد ظننت أنني أقف أمام مرآة سحرية أشاهد حياتي تتقدم عبر مراحل العمر المختلفة. لم أشعر بفرحة عارمة حين رأيته كتلك الفرحة التي شعرت بها حين اقتنيت دراجتي الهوائية.

دخلت إلى الحي فوجدته جالساً على حجر مكوراً جسده ورأسه يكاد يلامس أصابع قدميه. حين شعر بخطوات قادمة نحوه رفع نظره، حدق بي كأنه تلميذ ينظر إلى خارطة العالم. يا الهي كم يشبهني هذا الرجل بملامحه الفريدة من نوعها. لقد ظننت أنني أقف أمام مرآة سحرية أشاهد حياتي تتقدم عبر مراحل العمر المختلفة. لم أشعر بفرحة عارمة حين رأيته كتلك الفرحة التي شعرت بها حين اقتنيت دراجتي الهوائية.

كنت أحلم بشراء دراجة هوائية جبلية ذات دواليب رفيعة جداً ومقود نصف دائري. ذلك الحلم كان سبباً وجيهاً لكي أبحث عن عمل في فترة ما بعد الظهر وأيام العطل. استطعت تدبير عمل براتب عشرة دولارات في الأسبوع. اتضحت الخطة. خلال أسبوعين، ودون تبذير حتى سنت واحد، سأتمكن من شراء دراجة مستعملة ويبلغ ثمنها عشرون دولاراً. تحمست كثيراً. في كل يوم، وأثناء رجوعي من المدرسة، كنت أمر من جانب المحل لأطمئن إلى أن دراجتي ما زالت موجودة. كنت أتأمل مواصفاتها، أدخل إلى المحل وأسال عن سعرها مرة أخرى، أضع يدي عليها وأمسح الغبار عنها ثم أكمل طريقي إلى العمل.
رب العمل كان ورعاً. لقد عرفت ذلك من تأديته صلواته اليومية في مواعيدها المحددة. على جبينه طبعت علامة فارقة من كثرة السجود وفي أصابعه تبرز خواتم ذات حبات زرقاء كبيرة. كان له جثة ضخمة ولحية طويلة كثة غير مشذبة وكانت تفوح منه دائماً رائحة العتبات المقدسة.
كنا نبيع الستائر الداخلية والخارجية وأنواع مختلفة من الأقمشة وكنا نقدم خدمات تنسيق الديكور. في المتجر، وإلى جانب البضائع، وضعت ماكينة للخياطة وبجانبها طاولة كبيرة تستخدم لقص الأقمشة وتفصيلها وقياسها وتركيبها. على الطاولة كانت توضع شتى أنواع الاكسسوارات والزينة وصندوق صغير يحمل باليد يحتوي داخله على “عدة الشغل”.

صاحب المتجر كان طيباً وسخياً، في كل يوم كان يعطيني ثمن وجبة طعام. ربما كان يشفق علي. كنت أقصد مطعماً لبيع الوجبات السريعة يقع إلى جانب محلنا لشراء سندويش همبرغر. اقترح صاحب المطعم علي مرة أن أنال وجبتي اليومية مجاناً بشرط قدومي في أوقات الفراغ لتقشير البطاطا. بالتأكيد كانت إجابتي نعم.
ذات يوم حين عدت إلى المتجر حاملاً سندويش الهمبرغر، ناداني رب العمل، ذلك الرجل الطيب، الورع، السخي، الذي تفوح منه رائحة العتبات المقدسة والذي طبع جبينه بعلامة فارقة من كثرة السجود، ذلك الرجل الذي يضع في يده خواتم ذات حبات زرقاء كبيرة وله جثة ضخمة ولحية طويلة كثة غير مشذبة. كان مستلقياً كعادته في ظهيرة كل يوم، خلف الطاولة الكبيرة على سجادة صغيرة من الحصير المنسوج باليد ويتكئ إلى مخدة وثيرة واضعاً الساق على الساق. حينها لم أكن قد تجاوزت المتر وربع المتر من الطول. لم أكن افقه شيئاً من الحياة. أفرد جسده وقام بوضع رأسه بين قدمي وبدأ بملاعبتي بيديه تماماً كالراعي الذي يحتلب غنمته. صدق من أطلق على الهمبرغر اسم “الوجبة السريعة”. اكلتها بسرعة فائقة مع البطاطا المقلية والكاتشاب والمايونيز يسيل منها جراء حشوتها الزائدة ثم مصمصت فمي بلساني. وقف وأطلق زفرة بهيمية ثم دخل الحمام. مضمض فمه وغسل وجهه ويديه ثم خرج مبتسماً.
غمرتني السعادة حين تقاضيت ثاني راتب لي. ذهبت مسرعاً لشراء الدراجة الهوائية التي حلمت بها. لا يمكنني وصف الأحاسيس الجميلة الطفولية التي اعترتني حين عدت إلى الحي راكباً دراجتي والأطفال يتبعونني مهللين. كأن إنجازاً ما، تاريخياً، قد حصل لي.
دخلت إلى الحي فوجدته جالساً على حجر مكوراً جسده ورأسه يكاد يلامس أصابع قدميه. حين شعر بخطوات قادمة نحوه رفع نظره، حدق بي كأنه تلميذ ينظر إلى خارطة العالم. يا الهي كم يشبهني هذا الرجل بملامحه الفريدة من نوعها. لقد ظننت أنني أقف أمام مرآة سحرية أشاهد حياتي تتقدم عبر مراحل العمر المختلفة. لم أشعر بفرحة عارمة حين رأيته كتلك الفرحة التي شعرت بها حين اقتنيت دراجتي الهوائية. من قال بأن هناك حرباً نظيفة وحرباً وسخة؟ الحرب هي الحرب. لقد تركت المعارك التي خاضها ندوباً ظاهرة على جسده وتركت آثاراً خفية في باطني. لقد بلغت المترين من الطول وأصبحت رجلاً يضع مسدساً على خاصرته وأما هو، نسختي القديمة، فقد جرّده القتال من إنسانيته كما حرمتني الحرب من طفولتي. ابتسم والدي وصافحني باليد. لم نتعانق. بادرني بالكلام قائلاً: هل لديك مال؟ أنا بحاجة إلى علبة دخان من أي نوع.
لم يكن قد مضى على خروجه من السجن ثلاثة أشهر عندما وافته المنية متأثراً بداء سرطان الرئة. قال لنا الأطباء إن لا أمل لديه في الحياة لذا يستحسن أن يلفظ أنفاسه الأخيرة في منزله بالقرب من عائلته. على كنبة صغيرة مهترئة في منزل لا أبواب له ولا نوافذ، تدخله الريح بلا استئذان، أسلم والدي الروح.
هل تقتصر الوراثة على الخلايا الجينية البيولوجية المسؤولة عن تكوين الخصائص الفيزيولوجية لدى الإنسان؟! أم تتعداها لتلامس الروح والقدر والمسار والمصير خلال انتقالهم من الآباء إلى الأبناء. هل شريط حياتي بكل ما يحتويه من تجارب مررت بها لا يعدو كونه استنساخ بشري وإعادة انتاج كائن شبيه يحمل شيفرة وراثية مطابقة للسلف بالدم والروح أيضاً أم أن الحروب توقف عجلة الزمن وتبقيه صامتاً، خائر القوى وغير قادر على التقدم. أستعيد كل هذه الذكريات من الماضي جالساً على الكنبة التي أسلم والدي الروح عليها بعد مضي أكثر من عشرين عاماً، فقط من أجل تفسير أحداث المستقبل.
يداي مكبلتان بالأصفاد وعناصر الأمن تجرني الى داخل السجن. غرفة الحراسة ما زالت كما هي والبوابة المطلية بالأسود لم يتغير لونها. الرائحة الكريهة نفسها والممرات المتسخة بقيت على حالها. الجنود ببذاتهم العسكرية وأسلحتهم، حتى الزائرين الذين يحملون أكياس الطعام بقوا كما هم. أدخلوني الى تلك الغرفة الصغيرة حيث الشباك الحديدي، على الجدران وجدت اسمي محفوراً دون ذكر التاريخ. وجهت نظري نحو الأسفل، حاولت اخراج ثلاثة أرباع جسدي من بين القضبان ثم لوحت بيدي وبدأت بالصراخ ” بني…بني أنا هنا…انظروا كم هو جميل…إنه يشبهني…
أنا هنا في الغرفة رقم 243.

السابق
عبد اللهيان: ايران ساعدت الاكراد العراقيين ضد تنظيم الدولة الاسلامية
التالي
فنيش: حزب الله منفتح على القوى كافة